نحو إعلام سوري أهلي ليبرالي

بشير البكر

 

ليس بالاقتصاد وحده تبنى البلدان، بل بالإعلام أيضاً. الإعلام قيمة مضافة لوزن أي بلد مهما بلغ من التطور، وقوة ناعمة، تلعب دوراً مهماً على مستوى تحصين البلد، وتشكل رأس مال فعلياً للتنمية الإنسانية، وصناعة الشخصية الوطنية، وتقديم الصورة الإيجابية، التي تعد عامل جذب أساسي. وأمامنا تجارب إعلامية متميزة، عربية وغير عربية، تجاوز تأثيرها مفعول العمل الدبلوماسي، والوزن الاقتصادي.

في سوريا ثروة إعلامية كبيرة، نمت وتطورت منذ تأسيس المملكة السورية العام 1918. وهناك تجارب عديدة، تشكل علامات على غنى وعافية وحيوية المجتمع السوري، ودور نخبه السياسية والاقتصادية والثقافية في تشكيل المنطقة والعالم العربي. وقد كانت تصدر في سوريا 45 صحيفة، قبل وصول حزب البعث إلى السلطة وحكم سوريا بقانون الطوارئ سيء الصيت الصادر العام 1963. ورغم ذلك لم يتوقف أهل هذه المهنة عن الكلام وصناعة التجارب، التي انتقلت في معظمها إلى الخارج، وخصوصاً إلى لبنان، الذي شكل رئة للصحافة السورية وللصحافيين السوريين، طيلة العقود الستة الماضية. ومنه أصدر سوريون صحفاً، وفي صحافته عمل واكتسب الكثيرون خبرات مهنية.

نحن اليوم في بداية عهد جديد، عنوانه الحرية والخلاص والعزيمة على إعادة بناء البلد، وسيكون فيه للصحافة الأهلية مكانها، كي تمارس دورها في تحفيز الرأي العام، وإثارة الحوار حول القضايا الأساسية، والإضاءة بعمق على قضايانا السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والرياضية. لا يكفي الإعلام الرسمي وحده للنهوض بمهمة مواكبة التجربة الجديدة، وستكون هناك مساحة شاغرة أمام الإعلام الأهلي الحر، وهذا لا يمكن أن يرى النور من دون اللقاء الواعي بين الخبرات الإعلامية السورية المستقلة، ورأس المال الوطني، الذي يطمح للاستثمار في سوريا الجديدة.

هناك كفاءات صحافية وازنة، تكونت في الداخل والخارج، لديها الاستعداد التام لتوظيف خبراتها، من أجل إطلاق أكثر من مشروع إعلامي نهضوي يخدم البلد، وينمي الثروة الإعلامية. وبالتالي هناك فرص كثيرة لإصدار الصحف وإطلاق المواقع الإلكترونية والقنوات التلفزيونية، وفي الأحوال كافة لا يمكن لجهة واحدة، مهما بلغت امكاناتها القيام بذلك منفردة، وعلى هذا تصبح الحاجة ماسة إلى شراكات متعددة بين شتى الخبرات الإعلامية والإمكانات المادية، بما في ذلك المطابع.

يشير خطاب المسؤولين الجدد إلى أنهم سيعتمدون نموذجًا يقوم على تدخل محدود للدولة، وترك مساحة كبيرة لرأس المالي الأهلي كي يشارك في البناء. ومن المفترض ألا يقتصر هذا التوجه على تحرير الاقتصاد، وتقييد الإعلام والثقافة. وحتى لا تبدو المعادلة عرجاء، يجب على الدولة أن تفتح المجال أمام المبادرات الأهلية لإصدار الصحف، وتأسيس قنوات التلفزة المستقلة، ودور النشر، واستيراد المطابع.

نطمح إلى إعلام يرقى إلى ما تعد به المرحلة من آمال وتطلعات، يحمل أحلام وأشواق السوريين التواقين إلى سوريا جديدة، تتسع لجميع أبنائها، وتفتح المجال أمام كل صاحب خبرة ورأي ورأس مال كي يشارك من موقعه في صناعة المستقبل، الذي يليق بهذا البلد الذي عانى التهميش، وكبت الأنفاس، قبل أن يعود إلى أهله، بعدما خطفته عائلة الأسد لأكثر من نصف قرن، ودمّرت رأس ماله الرمزي، الذي تشكل بفضل ما تتمتع به الشخصية السورية من انفتاح، وتسامح، وقابلية للحوار، واحترام للاختلاف، والعمل، والبناء.

يريد السوريون إعلاماً جديداً ينقلهم إلى العصر، ويضعهم في مكانهم اللائق كشعب متقدم اجتماعياً وثقافياً. وفي الوقت ذاته يمارس دوره في مواكبة التجربة الجديدة من موقعه المراقب والناقد بحرص. وما لم يبادر أهل المهنة والمال من السوريين، إلى صناعة هذا الإعلام، فلن يساعد أحد في ذلك، ومن غير المستبعد أن يتقدم غيرهم إلى لعب هذا الدور، في ظل تنافس مفتوح، يلعب فيه، دورا أساسيا، رأس المال الخارجي الطامح إلى التأثير سياسياً واقتصادياً في خيارات سوريا الجديدة.

نشوء إعلام أهلي قوي، مصلحة عامة، حتى لو لم تكن الدولة على وفاق مع الخط التحريري لوسيلة الإعلام هذه أو تلك. الحكم الفصل هو المهنية والموضوعية، وما يهم في النتيجة هو المردود الذي تحققه الصحيفة أو القناة التلفزيونية. وهناك أمثلة في المحيط العربي، وغير العربي، عن تمويل بعض الدول لوسائل إعلام، لا تتفق مع مواقفها السياسية. وسر النجاح هو السقف العالي من حرية النقد، التي تتمتع بها هذه الوسائل، ولدينا مثال مهم هو صحيفة “لوموند” الفرنسية التي تأسست، بطلب من الجنرال ديغول، العام 1944 بعد خروج الجيش الألماني من باريس خلال الحرب العالمية الثانية. وقد اشترط أول رئيس تحرير، هوبير بيوف ميرى، استقلال الصحيفة كشرط لتوليه المشروع الذي كان يتلقى التمويل من الدولة، وينتقد سياساتها في الوقت ذاته، ولكنه كان أفضل معبّر عن ديموقراطيتها، وتعدديتها السياسية، ومرآة لنفسها، يراها من خلاله العالم.

 

المصدر: المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى