
فى عالمنا المتغير فائق السرعة يبدو التجاور والتداخل ما بين الواقع الإنسانى الفعلى ومشكلاته وتعقيداته ، وبين ما كان يُعد من قبيل التخييلات الروائية، أو ما يطلق عليه في ازمنة سابقة الخيال العلمى، لاسيما فى علاقة الإنسان بالآلة، ثم التقنيات فائقة التطور.
كانت العلاقة بين الإنسان والآلة، جزءًا من بعض السرود الروائية، ثم تحولت إلى سرديات سينمائية حول الإنسان، والسيطرة التكنولوجية، للإنسان الآلى، أو علاقة الإنسان بعالم من الكائنات الحيوانية او الطيور المعروفة ، وتعديلات في قدراتها، أو المتخيلة، والصراع بينها وبين الإنسان على الأرض، أو كائنات تأتى من عوالم أخرى، أو فضائية ذات قوة تدميرية هائلة، أو روبوتات تهيمن على الأفعال والسلوك الإنسانى. فى كل هذه السرديات السينمائية، أو الدرامية التلفازية، ثمة غرابة، وتخييلات جامحة فى السيناريوهات، والحوار، ومع الثورة الصناعية الثالثة والرابعة بات التوظيف لتقنياتهم المتطورة في تنامٍ مستمر وسريع جدا ، ومتطور للتكنولوجيات، بما فيها الرقمية والذكاء الاصطناعى التوليدى، وفى الغالب ينتصر العقل، والفعل الإنسانى على هذه الكائنات الحيوانية، أو الطيور ذات الأشكال الغربية.
كان التلقي والتمثل الإنسانى لهذه الأعمال الروائية، أو السينمائية أو التلفازية، يتم من أبواب الإثارة والغرابة التى تكسر حدة الملل، وبعض من الاغتراب فى عالم الأشياء، والسلع، والتكنولوجيا لاسيما فى المجتمعات الرأسمالية الأكثر تطورًا.
مع التطورات التقنية المتطورة فى سرعات استثنائية من أنظمة الذكاء الاصطناعى، والثورة الرقمية، ثمة حالة من القلق، والتوتر، واللا يقين من غموض مسارات ومألات التطور العلمى المستقبلى، سواء من خلال الوعى بحساسية وقفزات التغييرات الاستثنائية المتلاحقة، وأثرها على الوجود الإنسانى ذاته، وعلى مفهوم الوحدة، والعزلة، بل والتفاعلات الاجتماعية، والأسرة، والصداقة، والحب على نحو يدفع نحو “ثورة الحواس”، علامة ودلالة على الحاجة والدوافع للشعور الفردى والجماعى بالوجود، من خلال الحواس في الجنس، والمآكل، والمشرب، والزى وأنظمة الموضة، والألواح الرقمية، والهواتف النقالة وتطوراتها التقنية السريعة، والسفر للسياحة، أو تعاطى الأفيون الرقمى، من خلال الهوس بالحضور على وسائل التواصل الاجتماعى للجموع الرقمية الغفيرة في أنماط حياتها الفعلية واليومية فى المنزل، والمركبات العامة، والخاصة، والمقاهى والمطاعم، ومواقع العمل! أنماط من الاستهلاك الحواسي، والرقمى، بما فيها الجنس الرقمى مع الاخر على نحو يكشف عن حالة الانكشاف والتعرى، بل ونهاية مفهوم الخصوصية.
ثورة الحواس والاستهلاك للسلع والخدمات الفعلية والرقمية أدت إلى تشوش وميوعة وتداخل الحدود الفاصلة بين الفعلى والرقمى، بين الواقع ، وما كان يُعد خيالاً علميًا في الماضي.
أدت حرية الاستهلاك واسع النطاق، وهيمنة الشركات العملاقة على إنتاج السلع والخدمات إلى توجيه الدوافع الاستهلاكية للأفراد والجماعات فى الدول الأكثر تقدما، والمتوسطة، بل ولدى شرائح داخل الدول الأكثر فقرًا وإلي هيمنة نزعات تسليع وتشيؤ الحواس والتطلعات الفردية .
مع الرأسمالية الرقمية، وشركاتها العملاقة، باتت سياساتها الإنتاجية مؤثرة على النظم الليبرالية التمثيلية، والطبقات السياسية الحاكمة من خلال الأنظمة ، وبرامج الذكاء الاصطناعى، والبيانات الضخمة Big Data،ـ وتداخلها، فى أنظمة، وسياسات وآليات الهيمنة على المواطنين، من خلال أنظمة الرقابة، والمتابعة فى أماكن العمل، وفى الأسواق، والمنازل، والشوارع، وأماكن التنزه والطائرات، والقطارات، والسفن، والمركبات العامة، غالب تفاصيل الحياة باتت تحت الرقابات الرقمية، وعلى رأسها الحياة الرقمية على وسائل التواصل الاجتماعى على اختلافها. من ثم باتت بعض الحريات العامة، والفردية فى حالة انكشاف، وتحت الرقابة، حتى حرية الاستهلاك بوصفها حرية الحريات جميعها في عصرنا – مع الرأسمالية النيوليبرالية والثورة الصناعية الثالثة، والرأسمالية الرقمية فى الثورة الرقمية الرابعة – في حالة حصار ورقابات متعددة المستويات، والتفصيلات ، وبات الفرد اسيراً وخاضعا لها.
من هنا تغولت، وسيطرة الشركات الرأسمالية الرقمية العملاقة على الحياة الإنسانية، والسياسية، وعلى الأجهزة الدولتية، ومن ثم بات الصراع على ابتكار أنظمة الذكاء الاصطناعى التوليدى، والروبوتات، أحد أبرز سمات التحول فى عصرنا، نحو ما بعد الإنسانية حيث سيدخل الذكاء الاصطناعى التوليدى طرفا فاعلا فى المستقبل ، وخاصة فى الأجل المتوسط، -فى مجتمع الإناسة الروبوتية، ثم ما بعد الإنسان- ويؤثر فى التحول من المجتمع الإنسانى، ونظمه وسياساته إلى عالم مختلف ليس عالما إنسانيا محضا ، ومن السيطرة الإنسانية إلى أدوار متعاظمة لأنظمة الذكاء الاصطناعى التوليدى، والروبوتات، ومن ثم سيؤدي ذلك إلي إنهاء مفاهيم سياسية وفلسفية وسوسيولوجية حداثية عديدة، ومنها الدولة، والقومية، والأنظمة السياسية الليبرالية التمثيلية. مفهوم القومية والدولة والأمة هى مفاهيم وإبداع إنسانى فى عصر التوسع الرأسمالي ، والحداثة السياسية ومابعدها وما بعد بعدها ، ومن ثم سيلعب الذكاء الاصطناعى في الأجلين المتوسط والبعيد دورًا بارزًا فى أعمال سلطات الدولة الثلاث.
السلطة التنفيذية ستعتمد على إعداد سياساتها وبرامجها على الذكاء الاصطناعى التوليدى، الذى بات يمثل الآن، أحد أبرز البرامج الرقابية فى السيطرة، ومتابعة الأمن الجنائى، والسياسى، وأشكال الخروج على القانون، وأيضا فى مجال الاستخبارات، وفى تطوير الأسلحة المختلفة، وفى مقاومة التجسس، والاختراقات الخارجية لأنظمة المعلومات الاستخباراتية والأمنية والدولتية.
فى مجال السياسات الاقتصادية، من خلال إمكانيات وضع مشروعات القوانين، واللوائح، والقرارات الإدارية فى ضوء المعلومات المتاحة، وأفضل الخيارات فى عصر فائق السرعة، والتحول.
سيؤثر الذكاء الاصطناعى التوليدى على العقل السياسى للطبقة السياسية، الذى سيعتمد على اللجوء إلى الذكاء التوليدى، فى عديد الأمور، من وضع السياسات والبرامج، والقرارات، أو فى الاختيارات بين البدائل المختلفة، أو اعداد الردود على الأحزاب السياسية المعارضة فى البرلمان، أو وسائل الإعلام المختلفة.
فى مجال عمل السلطة التشريعية من المرجح استخدام الذكاء الاصطناعى التوليدى فى تحليل مشروعات القوانين من الحكومات، وفى أعدادها من خلال البيانات الحكومية ، وفى مجال كل مشروع قانون، ووضع نصوص مقترحة، أو تعديلات، أو ضبط النصوص التشريعية، ورفع التعارضات والتناقضات بين نصوص القوانين المختلفة، أو اقتراح إلغاء بعضها، أو وضع صيغ توافقية فيما بين بعضها بعضًا. سيعتمد أعضاء البرلمانات والأحزاب الحاكمة والمعارضة على الذكاء الاصطناعى فى إعداد التشريعات، أو مناقشتها، أو نقد بعض نصوصها، أو رفضها، والأهم فى مجال الرقابة البرلمانية وفى إعداد الأسئلة والاستجوابات للسلطة التنفيذية . فى نطاق عمل السلطة القضائية، دخلت الرقمنة فى مجال المحاكمات عن بعد كما حدث فى ظل وباء “كوفيد-19” المتحور وحالة الأغلاق الكلي والجزئي ، ويمكن استخدام الذكاء الاصطناعى التوليدى مستقبلا فى التحقيقات الجنائية –من الأجهزة الشرطية- من الأجهزة القضائية –النيابة العامة والقضاة -، وذلك على نحو أولى مع الدور الإنسانى، ثم سرعان ما سوف يتم التركيز على ما تقوم به برامج الذكاء التوليدى، خاصة مع تطوراتها المتسارعة، وردود أفعالها.. يمكن أيضا استعانة القضاة بالذكاء التوليدى فى وضع الأحكام، وحيثياتها، واستدعاء المبادئ القضائية. من ناحية أخرى تحليل شخصيات المتهمين نفسيا،وسوسيولوجيا ، ودوافعهم للسلوك الإجرامى..الخ.
الاحتمالات السابقة كان من الممكن اعتبارها بعض من الأخيلة الإنسانية الجامحة، إلا أن السرعة الفائقة وأثرها على الابتكارات التقنية، وفى العلوم الطبيعية، على نحو بالغ السرعة، جعلت ما كان متخيلاً بات جزءًا من الواقع الفعلى المتغير فى قفزات هائلة، ومن ثم سيجعل من العقل السياسى الحداثى، وما بعد الحرب الباردة، فى حالة تناقضات وعجز، ونكوص على نحو ما يفعل ترامب، الذى يحاول استعادة نمط من الشعبوية القومية ، وبعض من الاعتداءات على القضاء، والمساس بالحريات الأكاديمية في جامعات النخبة، وتقليص بعض أجهزة الحكومة الفيدرالية، والموظفين انطلاقا من سياسة تحويل الحكومة الفيدرالية إلى شركة فى إدارتها، وطرد الموظفين الحكوميين إذا رفضوا تعزيز السياسات التى يتبعها الرئيس، ومحاسبتهم على أعلى معايير السلوك والأداء.
من ثم استعان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأغنى رجل فى العالم إيلون ماسك، من اجل تفكيك البيروقراطية الحكومية، وتقليص الإجراءات التنظيمية المفرطة، وذلك لخفض الهدر فى النفقات وإعادة هيكلة الوكالات الفيدرالية.
لا شك أن محاولات ترامب وماسك العمل على الحد أو تقليص دور الكونجرس والقضاء فى اتخاذ القرارات كلها سياسة لتغيير بعض وظائف سلطات الدولة أيا كانت حدودها، ولو على نحو جزئى! إنها سياسات وقرارات تنفيذية تحاول من خلال الشعبوية القومية ، توظيف بدايات ثورة الذكاء التوليدى، فى سياسة مناهضة لها، وأقرب إلى التراجع إلي مفاهيم تتغير، وتؤدى إلى شروخ فى مفهوم الدولة، وسلطاتها الثلاث والفصل بينها، والليبرالية التمثيلية، والحريات وحقوق الإنسان وما كان يطلق عليه القوة الناعمة الأمريكية ، وأيضا سياسة تفاقم من حالة الاضطراب واللا يقين فى التنظيم الدولى ما بعد الحرب العالمية الثانية ومنظماته المختلفة، التي باتت عاجزا عن مواجهة تغيرات عالمنا فائقة السرعة.
المصدر: الأهرام