
كان اسمه سامر، شاب من حمص، لا يتجاوز العشرين، لم يكن ثائرًا حين بدأت الحكاية، بل كان مجرد شاب يحب كرة القدم ويعزف العود بين أصدقائه، حين انطلقت أولى الهتافات خرج مثل غيره ليرى لا ليشارك، لكنه عاد وهو يرتجف: “صرخوا من أجل الحرية، لكن الجنود ردّوا بالرصاص“.
في الليالي التالية، بدأ سامر يخطّ جملاً صغيرة على قصاصات ورق في غرفته، ويتبادلها مع الأصدقاء لتكون شعارات لافتات المظاهرات في االأيام المقبلة.
ذات مساء، اقتادوه، ظلّت أمه تبحث عنه عامًا كاملًا، باعت ما تملك، دفعت رشاوى، توسلت للضباط، وأخيرًا، عرفت أين يكون ولكن من دون أن تقوى على إخراجه، خرج بعدها بعفو، أو ربما بصفقة لا تعرف تفاصيلها. لم يكن كما كان، انكمش جسده، وصار منكفئاً على وحدته، ولم تستطع محاولات والدته إنقاذه من خيالات ما رآه حيت اعتقل، فقررت أن ترسله خارج البلاد ليبدأ حياة جديدة، سامر الآن لاجئ في بلد بعيد، لقد نجا لكنه لم يُشفَ.
ليست حكاية سامر الوحيدة ربما، فقد مضت سنوات عجاف ارتبطت فيها صورة سوريا بالقتل والتهجير والخيام والمعتقلات، ونعرف جميعاً أنها منذ عام 2015 تصدرت نسبة اللجوء في العالم، وكانت صورة القارب المطاطي هي البطل المطلق في تلك الذاكرة.
ركب كثير من السوريين قوارب البحر وذهب كثير منهم قرابين للقضية، وأصبحوا جثثاً تطفوا وتتلقفها الأمواج على غير هدى، كانوا قد يئسوا من النجاة جماعياً فاضطروا للبحث عن خلاص فردي.
وحيداً كان السوري في بؤسه وانعدام حيلته، تخلى عنه العالم إلى درجة اضطر أن يجد لنفسه مخرجاً فشقّ طريقه بأظافره باتجاه ما عدّها نجاة من المحرقة في ذلك الوقت.
لم يكن لدى السوريين فرص كبيرة للنجاة، كان الهروب جزءاً من خطة التمسك بالحياة استجابة لغريزة البقاء، وكان القارب المطاطي هو الشيء الوحيد الذي قد يحقق تلك المعجزة على الرغم مما يحمله من مخاطر وكوارث.
أذكر جيداً حكايات السوريين ممن اضطروا لرمي أوراقهم الثبوتية وحقائبهم في البحر، لتخفيف حمولة القارب الذي كنا نحمّله أكثر من طاقته واستيعابه، تارة من المسافرين وتارة من قدرته على الحفاظ على الحياة، على الرغم من خفته مثل ريشة في مواجهة الرياح.
كانت احتمالات السوريين في العيش وفي البحث عن فرص نجاة محتملة، هشة ضعيفة وغير آمنة لكنها كانت ضرورية ومتفردة وجميلة على الرغم من عيوبها، مثل خط سراب يلوح في أفق الصحراء فنتبعه إلى ما لا نهاية حتى وإن كان الموت عطشاً هو مصيرنا المحتوم.
ركب كثير من السوريين قوارب البحر وذهب كثير منهم قرابين للقضية، وأصبحوا جثثاً تطفوا وتتلقفها الأمواج على غير هدى، كانوا قد يئسوا من النجاة جماعياً فاضطروا للبحث عن خلاص فردي.
لم تكن النجاة مجرد فعل، بل كانت شكلاً من أشكال البطولة اليومية، حين بدأ الموت يتسلل من السماء على شكل براميل، ومن الأرض على هيئة عناصر يقتادون الأرواح إلى غياهب المجهول، لم يكن أمام الناس سوى أن يتحولوا إلى ظلٍ خفيف غير مرئي كي يضمنوا البقاء.
هرب البعض بخطى مرتجفة، يحملون أطفالهم في حضنٍ كاد ينهار من الخوف، يبحثون عن وطنٍ مؤقتٍ خلف الحدود، تسلقوا الجبال، سبحوا في الموت نحو البحر، أو افترشوا الأرصفة في بلاد لا تشبههم، لكنهم تمسكوا بالحياة كما لو أنها آخر قشة في طوفان الوحشية.
بقي آخرون في البلاد ليس من أجل استمرار النضال الذي بات غير ذي نفع أمام آلة الحرب الثقيلة بقدر ما كان السبب هو انعدام الحيلة، لم يكن هناك طريق آخر، اختبؤوا في أقبية تتنفس الغبار، كانوا في الليل يحرسون صمتهم، وفي النهار يربتون على الخوف كأنه طفل جائع.
صرخ السوريون وكتبوا، وتظاهروا، ثم حملوا السلاح حين لم يبقَ من السلم إلا شظايا، قاتلوا لا ليكسبوا، بل ليخسروا بشرف، أنشؤوا مدارس تحت الأرض، وخبزوا الأمل بيدين مرتجفتين، وحاولوا أن يصنعوا وطنًا من الركام.
في وجه المقتلة الأسدية، لم تكن النجاة حياة، بل كانت مقاومة، وكان كل نفس يخرج من صدر سوري هو فعل تمردٍ ضد الموت، ثم جاء التحرير حاملاً معه مساحة أمل أوسع، ولكن حين يسقط الجدار الأخير للطغيان، لا يعني ذلك أن النجاة قد تحققت، فالتحرير ليس لحظة نصر، بل بداية سؤال مؤلم: كيف نحيا من جديد؟
ليست النجاة الجماعية للسوريين حدثًا، بل مسارًا، هي ليست مجرد خروج من سجون النظام، بل خروج من عقد الخوف، من الطائفية، من الثأر، ومن هشيم الروح، فالسوري الخارج من الحرب، ليس فقط بلا بيت، بل بلا ثقة، وبلا يقين، مثقل بالأسى والخذلان.
لعلّ المعجزة الحقيقية ليست في سقوط النظام الأسدي، بل في أن السوريين، على الرغم من كل شيء، ما زالوا يؤمنون بأن الحياة تستحق أن تعاش.
إن أول شرط للنجاة الجماعية هو أن نصغي لضحايانا، لا أن نطمرهم في النسيان، أن نسمّي القاتل قاتلًا، لا حاكمًا سابقًا، وأن نفتح ملفات الألم لا لنمزقها، بل لنطهرها بالعدالة، فلا نجاة من دون عدالة انتقالية تُنصف المذبوحين، وتكسر سطوة الجلاد، وتُعيد للأمهات بعض الكرامة المسروقة من قبور أبنائهن.
ولا نجاة من دون مصالحة أيضاً، لا أتكلم هنا عن مصالحة سياسية سطحية، بل مصالحة تنبع من القرى، ومن الأحياء، ومن الناس الذين ذبحهم الانقسام أكثر مما ذبحهم الرصاص، مصالحة تبدأ بالاعتراف، لا بالإنكار. بالدموع، لا بالبيانات.
نعم لقد حان وقت الصعود في قارب النجاة جماعة وليس أفراداً، غير أن تلك النجاة ليست مضمونة تماماً، النجاة هنا احتمال علينا أن نعمل معاً من أجله كي لا يصبح حلماً بعيد المنال.
لعلّ المعجزة الحقيقية ليست في سقوط النظام الأسدي، بل في أن السوريين، على الرغم من كل شيء، ما زالوا يؤمنون بأن الحياة تستحق أن تعاش.
إننا في هذه المساحة الممتدة من الشمال إلى الجنوب، لم نعد نبحث عن نصر فقط، بل عن نجاة، ولم نعد نبحث عن خلاص فردي، بل عن شفاء جماعي، عن وطن لا نعيش فيه وحدنا، بل ننجو فيه معًا.
نحن السوريون، أبناء الحلم المكسور، والكرامة التي دُفنت ثم أزهرت، نُريد أن نكسر الحلقة التي تربط الضحية بالجلاد، لا بالدم، بل بالوعي، أن نكسر سيف الحقد، ونرفع مرآة الحقيقة.
نعترف: نحن موجوعون، وغاضبون، ومحبطون، فينا من خسر، وفينا من أذنب، وفينا من ظلّ واقفًا على الحدّ بين الخوف والخطيئة، لكننا نعلن أننا لا نريد أن نتحول إلى نسخ من قاتلينا.
نريد يوماً للصمت لا نُطلق فيه الحكم، بل نسمع، يومًا نصغي فيه لبعضنا من دون صراخ، ونروي فيه للسماء كل ما لم نستطع قوله في الزنازين، وفي المقابر، وفي الغربة، نريد عدالة لا تُبقي القاتل فوق القانون، ولا تبتلع المذنب في ثقب الكراهية، نريد أن نعيد بناء شوارعنا بأيدينا معًا، بكل أخطائنا وتوباتنا.
نريد أن تعود مدارسنا، لا لتلقن، بل لتفتح العيون، أن نُعلّم أولادنا ما جرى، لا ليرثوا الغضب، بل ليفهموا كيف لا يتكرر، لسنا سُذّج، ونعلم أن الغفران ليس سهلاً، وأن من فقدَ أحبته لا يملك قلبًا واسعًا دائمًا، لكننا نعلم أيضًا أن الثأر لا يبني وطنًا، وأن الحقد إن أُطلق، لا يترك أحدًا على قيد الإنسانية.
نريد وطنًا نعيش فيه لا لأننا متشابهون، بل لأننا نحب الاختلاف، ونقدّس الحياة، نريد سوريا التي لا تنجو بشخص، بل بنا جميعًا.
المصدر: تلفزيون سوريا