
مألوفٌ في تاريخ النهضات الكبرى أن الشعوب لا تنهض من غفوتها فجأة، ولا تتقدّم بخطى ثابتة نحو المجد إلا حين تستيقظ عقولها أولاً؛ فقبل أن تهتزّ الأرض تحت أقدام الطغاة، وقبل أن تعلو الهتافات في الساحات، يولد الوعي في زوايا الفكر، وينبعث النور من جمرات التساؤل، وتشتعل الأسئلة في العقول قبل أن تنطلق الأقدام في الشوارع!
اليقظة العقلية ليست رفاهية فكر، بل هي الشرارة الأولى لأي نهضة حقيقية؛ إنها لحظة وعي، يتفتّح فيها الإنسان على ذاته، وعلى تاريخه، وعلى واقعه، فيدرك ما يجب أن يتغيّر، وما لا يمكن القبول به بعد اليوم! فالتحرر من الجهل، ومن التبعية، ومن الخضوع، يبدأ حين يكف العقل عن الاستسلام، ويبدأ في استعادة دوره كقائدٍ لا تابع!
هكذا علّمنا التاريخ:
في أوروبا، سبق التنوير الثورة..
وفي الإسلام، سبق الإيمان قيام الدولة..
وفي كل حضارةٍ أشرقت، كان العقل أول من استيقظ!
إن السياسة لا تصنع الوعي، بل الوعي هو من يصوغ سياسة الشعوب، ويعيد تشكيل الاجتماع، ويبعث الروح في جسد الأمة! ولهذا، فإن بناء العقول أولى من ترميم الأنظمة، وتحرير الفكر أعظم من مجرد تغيير الوجوه!
إنها قاعدة ذهبية:
لا نهضة بلا يقظة،
ولا حرية بلا وعي،
ولا كرامة لأمةٍ لم تستيقظ عقول أبنائها!
أي نهضة حقيقية في تاريخ الأمم لا تنطلق من السياسة أو الاقتصاد أو حتى التحركات الاجتماعية، بل تبدأ من يقظة عقلية، أي: من تغيير في طريقة التفكير، وفتح آفاق العقل نحو الوعي، والتحليل، والتساؤل!
التحليل:
- ترتيب طبيعي في التغيير:
التاريخ يثبت أن النهضة تبدأ من تحول فكري وثقافي، مثلما حدث في أوروبا قبل الثورة الفرنسية، حيث سبقها عصر التنوير، وظهور فلاسفة كبار غيروا طريقة تفكير الناس!
- اليقظة العقلية كوقود:
لا يمكن للناس أن يطالبوا بحقوقهم أو يغيروا واقعهم إذا لم يدركوا أولاً أنهم مظلومون، أو أن هناك بدائل لما يعيشونه! هذا الإدراك هو جوهر اليقظة العقلية!
- الوعي أولًا:
السياسة والاجتماع هما انعكاس لفكر المجتمع. فإذا تغيّر الوعي، تغيّر السلوك، وبالتالي تغيّر النظام!
- مثال من التاريخ الإسلامي:
بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بدأت بتغيير جذري في التفكير والعقيدة، قبل أن تُبنى الدولة في المدينة. فالتغيير العقلي (الإيمان، العقيدة، القيم) سبق النظام السياسي والاجتماعي!
الدلالة والرسالة: العبارة تدعو إلى التركيز على بناء العقول قبل التفكير في إصلاح الأنظمة. فالعقل الواعي يصنع التغيير، أما الجهل فلا ينتج إلا التبعية والانقياد!
فلنغرس في عقولنا بذور التساؤل، ولنشعل في أرواحنا شموع الفكر، فما من أمةٍ سارت نحو المجد إلا حين آمنت أن النهضة لا تُهدى، بل تُنتزع بالعقل المستنير، وبالفكر الحر، وبالإرادة التي لا تخنع. ومن هنا، فإن طريق التغيير لا يبدأ من الخارج، بل من أعماق النفس، حين تستفيق وتُبصر وتثور، لا بالسلاح فقط، بل بالمعرفة، بالفهم، وبالإيمان بأن العقل هو أول معركة في طريق التحرير!
وفي النهاية هي نهضة تُبنى على وعيٍ عميق، لا على صخبٍ عابر؛ نهضة تُحرّكها العقول قبل أن تحميها السواعد!.
إن النهضة الحقيقية تبدأ من يقظة القلب والعقل، فكما أن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، فإن الإصلاح لا يتحقق إلا إذا استنارت العقول بنور الإيمان، وتحرّكت الأرواح بنبض التقوى والوعي، فالعقل الهادي بنور اللّه هو أول سبيل نحو التغيير!
إذا أردنا التغيير، فعلينا أن نوقظ عقولنا أولاً؛ فاليقظة الفكرية هي شرارة النهضة، وبداية كل تحرّر، لا نُسلّم بأن السياسة تصنع الوعي، بل نحن من نصنع السياسة بوعيٍ مستنير، ونُعيد صياغة واقعنا
بعقولنا فلنزرع فينا نور السؤال، ونوقظ فينا شجاعة الفهم، فإن أول معركة في طريق المجد، تُخاض في ميدان الفكر!.