“محامي الشيطان”

سلام الكواكبي

تعبير “محامي الشيطان” له جذورٌ تاريخيةٌ في الكنيسة الكاثوليكية، حيث كان يُعيَّن فردٌ يُعرف بـ”محامي الشيطان” خلال عملية دراسة ترشيح أحد الأشخاص ليصبح قديسًا. كانت مهمة هذا المحامي أن يُشكك في سيرة هذا الشخص، ويطرح الاعتراضات الممكنة على فضائله أو المعجزات المنسوبة إليه، وذلك لضمان اتخاذ قرار مدروس ومتوازن من قبل المجموعة الكنسية المكلفة بهذا الاختيار.

في الزمن المعاصر، صار يُستخدم هذا التعبير للدلالة على شخص يتعمد طرح وجهة نظر مخالفة أو مشككة خلال نقاش ما، ليس لأنه يعتقد بها بالضرورة، بل لكي يدفع الآخرين لتقديم حجج أقوى، أو لتوسيع زاوية النظر إلى الموضوع أو ليساهم في التخفيف من سلبية المشهد أو جزئيته. ويُعد هذا الأسلوب شائعًا في النقاشات الفكرية والتعليمية لأنه يساعد على تنمية التفكير النقدي. وكما هو يُساهم في التخفيف من غلواء متبني فكرة محددة يعتبر أصحابها بأنها غير قابلة للتأويل أو للنقاش أو للمعارضة.

وعلى سبيل المثال، يمكن لأحدنا أن يدافع عن موقفٍ سياسيٍ ليس موافقًا عليه بالضرورة، ولكن ينتابه الشعور في لحظتها بأن الهجوم على الموقف بعينه أو على صاحبه قد تمت المبالغة به وانه قد تجاوز الحد المقبول. هذا الحد الذي يتحدد في الذهن وفي القناعة وفق معايير ذاتية عمومًا، ويمكن لها أن تتقاطع مع بعض المعايير الموضوعية. وبالطبع، فالموقف السياسي يمكن أن يُستبدل بمواضيع عدة يمكن للمرء أن يلعب خلال معالجتها، الكلامية والنقاشية على الأقل، دور محامي الشيطان. فيجوز ذلك في الثقافة وفي الاقتصاد وفي العلاقات العامة والخاصة. بالمقابل، يبقى الأمر المحوري في الموضوع يتجسد في ضرورة إدراك مؤدي الدور أو متقمّصه، بأنه فعلاً يقوم بذلك عن سابق إرادة وتصميم، وليس صدفةً أو سهوًا البتة.

من جهة أخرى، اتفق بعض علماء النفس على اعتبار أن ممارسة هذه “المهنة” أمرًا مساعدًا في تقبل الخلافات بين الأفراد والجماعات. كما أنها تتيح لمن تقمصّها القدرة على تغيير مقاييس شعوره بالذنب او بالمسؤولية عن أمر ما. وحتى بالفشل أو بالنجاح في عمل ما. وقد يضطر أحياناً المرء أن يلعب أدواراً مفروضة عليه في إطار الحياة التي يعبر من خلالها. واعتبار لعبه لهذه الأدوار المفروضة لا يعني إنه يرفضها جملة وتفصيلاً. بل ربما كان قد اختارها في ظروف أخرى. ولكنها في هذا الظرف بعينه، فحتمًا ستكون مقوماتها وأبعادها ونتائجها مختلفة.

ومن الممكن إذًا، ومن خلال استقراء تطور ونمو المفهوم، أن نعتبر بأن بعده الكنسي، والذي سبق له أن أوجده تعبيرًا، يختلف عن بعده المعاصر واستعماله الحالي. فليس من الضرورة البتة أن يكون في دفاعك عن سياسة أو فكرة أو تجربة علمية ما، قد تشكّل في المسار التقليدي شبه اجماع على رفضها او نقدها، أو حتى إدانتها، بأنك، وباتخاذك قرار الدفاع عن “الشيطان”، قد وضعت نفسك في موقع ضعيف الحجة. لا بل يمكن لك، وفي مسار عرض موقفك واستنتاجاتك وتحليلاتك، والتي تخصّ هذا “الشيطان”، توضيح بعض النقاط الهامة والتي غفل عنها سابقًا عديدٌ من المتحدثين في الموضوع ذاته. وكذلك، يمكن أن يندرج لعب دور محامي الشيطان جزئيًا في إطار الدفاع الذاتي عن فكرة أو تحليل أو استنتاج، ترى “الجماعة” بأنه ضعيف الحجة، ويحتاج صاحبه لتعزيز تمسكه به فيلجأ للعب هذا الدور. وقد صار من المكرر أن يتخذّ المناقش هذه العبارة كدريئة يحتمي بها من النقد ويكاد يستغلها لطرح فكرة مقتنع بها حتى الثمالة، ولا يعتبر أنها في معرض الدفاع عن الشيطان، ولكن مجرد إيراده لها في المقدمة، سيعفيه، كما يظن، من النقد إن هو فشل في فرض وجهة نظره.

إن لعب هذا الدور، أي محامي الشيطان، قد يكون خيارًا شخصيًا جرى العمل على التفكير المليّ به وبنتائجه. أو قد يكون ناجم عن موقف مفاجئ لم يجد المرء بدًا من تقمصه. وأحيانًا، يكون لعب هذا الدور مفروضًا على متقمصه نتيجة لإرادة سياسية أو دينية هو غير مقتنع بها، ولكنه مُكلّف بتبنيها. وهذا النوع يمكن أن يعتبر من أفشل أنواع الدفاع.

من تجربتي الشخصية، ولاعتقادي أحيانًا بابتعاد المتحدثين عن النقد الموضوعي وانهماكهم في استعراض مشاكلهم الذاتية مع الفكرة أو الشخص العرضة للنقاش، أجد نفسي ملزمًا بأن ألعب دور محامي هذا “المُشيطن”. وعلى سبيل المثال، وعلى الرغم من موقفي النقدي شديد اللهجة من سياسات بعض الدول الغربية تجاه قضايانا العربية العادلة وتصاعد حدة الرهاب من الإسلام والعنصرية، فإنني ما زلت، وفي مداخلاتي العلمية والسياسية، أدافع عن النظام الديمقراطي الغربي وأبتعد عن التعميم والشمول اللذان يشكلان لي الطرف الآخر، والمساوي، من معادلة العنصرية والرهاب.

وأخيرًا، عدت من مؤتمر دولي مؤخرًا قمت من خلال جلساته بلعب الدور تجاه الحدث السوري بحذر وانتقائية شديد الدقة لمفرداتي سعيًا للتخفيف من عدوانية بعض المداخلات التي تؤيدها للأسف بعض الوقائع. وفي معرض تقمصي للدور، حاولت أن أبين البعد المجتمعي والتاريخي من دون انتقاص، مع الإشارة إلى بوادر إيجابية يجب أن يتم البناء عليها مقابل الحسم السلبي تجاه تجربة بعينها.

لعب هذا الدور يحتاج ليس لإرادة ذاتية فحسب، بل أيضًا يحتاج إلى رغبة من المعنيين في أن يتم توضيح مواقفهم بشكل هادئ وموضوعي. وألا ينجم عن إحباط وخيبة “محامي الشيطان” من “الشيطان” نفسه إلى دفعه للقول “رضينا بالهمّ والهمّ لم يرض بنا” (…).

 

المصدر: المدن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى