هل الكفاءات تلغي تمثيل المكونات السورية؟

سميرة المسالمة

يتبنى كثير من الباحثين والفاعلين في الشأن السياسي والاقتصادي نظريات مختلفة في عملية إعادة بناء الدولة السورية، وهي إن اختلفت عن سياسة ونهج السلطات السورية، لكنها لا تصب في إطار التحريض على معارضة السلطة، بقدر كونها محاولة لتحفيز السلطة على الاستفادة من تجارب ناجحة في نهوض الدول المتعثرة بعد حروب مدمرة من جهة، وكذلك لفتح المجالات لحوارات جادة وبناءة، حول أفضل آليات العمل الحكومي المسؤول تجاه شعب منهك، ودولة ترزح تحت عقوبات جائرة، من جهة مقابلة.

لذلك، فإن مناقشة الأليات التي اعتمدتها السلطة في بناء حوارها الوطني، واعتماد إعلانها الدستوري، وتشكيل حكومتها على أساس الكفاءة بهدف تغييب مفهوم المحاصصة، قد يصبح ضرورة بهدف معالجة آثارها قبل استمرارها، بهدف إنجاح التجربة لا التقليل من شرعيتها أو حسن نواياها، فما تم على أرض الواقع، لا يعني بالضرورة تطابق الفعل مع الرغبة. إذ أن اختيار الكفاءات ليكونوا بديلاً عن تمثيل المكونات، لم يحقق المشاركة الفعلية لتلك المكونات، حيث يشترط قبل اعتماد هذا النهج وجود دستور يقوم على مبدأ المواطنة المتساوية، والمشاركة الفعالة.

وهذا هو الأساس في بناء العلاقات بين أفراد المجتمع من جهة، وبينهم وبين الدولة من جهة أخرى، أي حين يصبح شرط الانتماء الأساسي هو المواطنة الفاعلة، عندها يكون الولاء على أنه ولاء للدولة الجامعة، لا للهويات الفرعية التي يمكن أن تتحول إلى انتماءات ضيقة قابلة للانفصال عن الكيان الوطني الكلي، أي “الدولة”.

تغييب تلك الهويات الفرعية عن المشاركة في السلطة والإدارة منعاً من انحدار البلاد إلى التمزق وفقاً لها، لا يعكس رفضاً حقيقياً لمبدأ المحاصصة، ما لم يحل مكانها مبدأ المشاركة المواطنية العادلة. فمجرد وجود أشخاص من انتماءات مختلفة في السلطة لا يعني بالضرورة تحقق التمثيل العادل. هناك فرق كبير بين وجود “طائفي” أو “قومي” رمزي للمكونات، وبين المشاركة الفعلية الديمقراطية، التي نادت وتنادي بها الثورة السورية المنتصرة على نظام الأسد القمعي التسلطي.

إن اللجوء إلى تسطيح مفهوم التمثيل بوجود أشخاص ذات انتماءات هوياتية ضمن الشراكة السلطوية يختلف عن مبدأ التشاركية الديمقراطية، وهو الذي يتحقق في حال استطعنا أن نجعل من تلك الهويات مصدر غنى للتنوع السوري، في ظل دستور يكفل التمثيل عبر انتخابات حرة ونزيهة، تستند إلى نظام انتخابي عادل يضمن تمثيل المناطق ومجتمعاتها، بعيداً عن صفاتها الدينية والطائفية.

وهذا يتطلب إطلاق الحريات العامة، ولاسيما حرية تأسيس الأحزاب والتجمعات والمنظمات المدنية، التي تعزز وجود برامج ورؤى إصلاحية التي تمكن المواطن من اختيار ممثليه بناء على الكفاءة التي تتحدث عنها السلطة، والرؤية التي تحقق طموحاته في حياة حرة كريمة.

إن أهمية إسقاط مبدأ المحاصصة، لا تكمن في كونه خياراً سياسياً فحسب، بل هو ضرورة تهدف إلى إعادة بناء الدولة على أسس راسخة من العدالة والمساواة، وبعيداً عن هشاشة التوازنات الهوياتية القابلة للانفجار والتشظي، وكذلك بعيداً عن المحاصصة العددية بين الأقلية والأكثرية، لأنها أيضاً لا تنتج سوى المزيد من الانقسامات والاصطفافات، بل تعزز التقوقع داخل مقصورة الهويات الفرعية، على حساب الهوية الوطنية الجامعة.

فالهوية الوطنية التي نبحث عنها، هي تلك التي تصنع مستقبل سوريا، وتزيح عن حاضرها الإرث الدموي الثقيل الذي خلفه نظام الأسدين (الأب والابن)، من خلال خطاب طائفي استند إلى تغذية الانتماءات الانقسامية وتوظيفها لضبط التوجهات المجتمعية، وتحويلها إلى أدوات للسيطرة السلطوية، أي أن هذا الخطاب هو صناعة سلطوية ممنهجة ضد وحدة المجتمع وفي مواجهة تطلعاته الديمقراطية، ما قد يتحول بفعل تبنيه من جميع الأطراف إلى بوابة لحرب أهلية، يحترق بنارها الجميع، ولا تنجو منها الأكثرية قبل الأقلية.

إن إعادة تعريف السلطة في سوريا بوصفها انعكاساً لإرادة الشعب السوري بكل مكوناته، تستدعي مشاركته في صنع القرار، وهذه المشاركة لا يمكن تحقيقها بوجود مركز يحتكر السلطة، ويمنع توزيع الصلاحيات لتصبح شراكة فعلية عادلة في تحمل المسؤوليات، وصناعة السياسات.

فتجاوز مبدأ المحاصصة لا يعني تهميش التنوع، أو إلغاء حق هذا التنوع في الصون والحماية ضمن إطار دستوري وقانوني، يضمن التعددية ويصونها عبر آليات ديمقراطية. وهي التي تحقق “المشاركة” التي تختلف جوهرياً في المنهج كما في النتائج عن “المحاصصة”. فبينما تعمق الأخيرة الانقسامات، تعزز الأولى الوحدة الوطنية، وتفتح المجال أمام مختلف المناطق لتحمل مسؤولية إدارة شؤونها، بما يتوافق مع تطلعات المواطنين في إعادة بناء منظومة الإدارة المحلية والاقتصادية.
من هنا يصبح مبدأ التنافسية ركيزة  لتجاوز واقع الدمار، والخروج من المركزية الشديدة إلى رحابة التشاركية الخلاقة، ما يشكل الأساس المتين لبناء دولة مدنية تنتمي فيها السلطة إلى كل الشعب، لا إلى أحقية عددية، تدخلنا في متاهة التصنيفات الطائفية والانقسام الهوياتي.

المصدر: المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى