يدخل النظام النقدي العالمي “المرحلة الرمادية”، أي مرحلة البحث عن نظام نقدي جديد بديل للمعيار الدولاري الذي ظل يهيمن على التجارة العالمية واحتياطيات البنوك المركزية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ولليوم ، ولكن هل تصمد تلك الهيمنة أمام عمالقة المال والاقتصاد الجدد الذين دخلوا الساحة ، سؤال بدأ يطرح بقوة ولعوامل عديدة جعلت من يهتم بالموضوع يبحث عن الإجابات ، وبشكل خاص بعد تعافي أوربا من الركود الاقتصادي وظهور الصين على الساحة لتحتل المركز الثاني بعد الولايات الأمريكية كاقتصاد ، و بعد أن أنشأت بورصتها الخاصة التي بموجبها تبيع وتشتري الذهب بعملتها المحلية وتبرم عقود النفط على هذا الأساس .
بنظرة تحليلية بسيطة للإحصائيات التي تظهر أن الدولار لليوم حصته من احتياطيات المصارف المركزية بالعملات الأجنبية تبلغ 5.052 ترليون دولار فيما تبلغ حصة اليورو التي تعتبر الثانية بعده 1.559 ترليون دولار والاسترليني 349 مليار دولار أما اليوان 84.51 مليار دولار -هذا الاحصائيات صادرة عن صندوق النقد الدولي- ، مما يعني أن المشوار مازال طويلاً أمام عمالقة المال الجدد للنيل من الدولار إلا إذا حدث انهيار لم يكن بالحسبان للاقتصاد الأمريكي ككل والذي بدوره سيسبب انهيار اقتصاد دول عديدة وراءه كون البنوك المركزية العالمية تملك سندات أمريكية تقدر بقرابة 5 تريليون دولار وأن هذا الدولار مازال عملة ( السويفت ) في التحويل المالي والعملة الرئيسة لتسوية الصفقات التجارية والمهيمنة على سوق الصرف العالمي .
نعلم جيداً أن هذا الدولار قد منح أمريكا أداة نفوذ وهيمنة واسعة بالعالم ليس فقط على الصعيد المالي والنقدي فحسب، بل كذلك على الصعيد السياسي والعسكري وإجبار الدول على تنفيذ سياساتها عبر مفهوم الحظر المالي والاقتصادي، ويكفي القول إن الدولار يمنحها ولشركاتها مقدرة على طباعة المائة الدولار والذي لا تتجاوز كلفتها 12 سنت، علماً أنها قادرة على الشراء بها بضائع وخدمات من العالم ما يساوي سعر مائة دولار.
تقول الأميركية (لان كاو)، في كتابها الصادر حديثاً بعنوان “حرب العملات وتعري هيمنة الدولار” تحديداً ما واجهه العالم من مشاكل منذ تحرير الدولار من الارتباط بقيمة ذهبية، إلى الطباعة بدون حساب ، منذ ذلك الوقت أصبحت أمريكا تطبع أوراق نقدية وتتاجر بسلع وخدمات العالم لتخلق مشاكل حرب العملات المتكررة وأزمة 2008 ليست ببعيدة عنا لكي نستوعب حجم الكارثة التي حلت بالاقتصاد العالمي بعد أن عومت أمريكا دولارها حيث أيضاً غرقت أمريكا في ديون وصلت الى 24 تريليون دولار أمريكي .
السؤال الذي يطرح نفسه الآن، هل يمكن أن يتحول الدولار من عملة مهيمنة بشكل مطلق على العالم، إلى عملة رئيسية بين مجموعة من العملات خلال السنوات المقبلة أو حتى العقود المقبلة.
سنأخذ الأمور بروية ونتتبع تصرفات بعض الدول والمحاولات للخروج من هيمنته كما تعمل اليوم الصين بالتركز على تعاملاتها باليوان وعملات أخرى، بدأ بشكل فعلي منذ سنوات، كان آخرها تحول فنزويلا إلى بيع نفطها وتسعير خاماتها باليوان في أعقاب الحظر الأمريكي الأخير، كما أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أصدر توجيهاته للموانئ ونقاط الجمارك في روسيا بعدم قبول الدولار في أية تسوية، لكن ما هو السيناريو المتوقع لمستقبل الدولار خلال العقود المقبلة؟
لاشك سنرى أن هذا سيرفع من حصة اليورو في النظام النقدي العالمي، كما أن اليوان كذلك سيقوى كوسيلة لتسوية الصفقات التجارية، وتدريجياً ستقل هيمنة الدولار وكذلك الطلب عليه وسنرى نظرية العرض والطلب تأخذ دورها لتضعف من قوته بالأسواق ، ويدعم ذلك ما يدور بأوساط منظمة البلدان المصدرة للنفط ( أوبك ) وتحت تأثير ودعوات روسيا لتبني سلة عملات في تسعير النفط بدلاً عن الدولار ، حيث تمثل تجارة النفط حوالي 1.72 تريليون دولار سنوياً وهذا أهم غطاء للدولار في العالم ، وبالتالي فإن أي تحول لمنظمة ( أوبك ) من النظام التسعيري المتعامل به منذ السبعينيات سيضعف هيمنته لأنه ببساطه سيقلل الطلب عليه .
يتركز الصراع الجديد، على نوعية النظام النقدي المقبل، أي الصراع على عملة الصرف المهيمنة في السوق العالمي بين ثلاث كتل تجارية وهي، الولايات المتحدة صاحبة فخامته للدولار، ودول الاتحاد الأوربي صانعة اليورو الشهير اليوم، ومجموعة (بريكس) التي تقودها الصين وروسيا والهند وتركز على اليوان ومنظومة المقايضة في تنفيذ الصفقات.
هنا لا بد لنا من تذكر أن ترامب أعلن منذ دخوله البيت الأبيض عن سياسات اقتصادية وتجارية جديدة تقوم على الانعزالية ومبادئ “أميركا أولاً” والحماية التجارية أي حماية السوق الأمريكية ضد البضائع المستوردة، حيث كانت ردة الفعل العالمية رفض كلي لهذه السياسات التي تمثل من وجهة نظرهم تقويضاً صريحا لحرية التجارة العالمية.
وعلى رأسها مبادئ منظمة التجارية العالمية وقوانينها الضامنة لانسياب السلع والخدمات بحرية بين دول العالم، وبالتالي فالكتلة الأوربية التي كانت مناصرة للسياسات الأمريكية أصبحت تنظر بريبة إلى أمريكا وتتخذ سياسات مستقلة خاصة بها وتنسق مع دول العالم وفقاً لمصالحها بعيدة عن التشاور مع واشنطن كما كان الحال سابقاً.
عوضاً عن التعاون الأوروبي مع واشنطن في قيادة العالم الرأسمالي الحر، أصبحت بروكسل تنافس واشنطن، فأوروبا لديها اليوم استراتيجية جديدة للتحول الى دولة فيدرالية واحدة يحكمها نظام اقتصادي وتجاري موحد معتمدة على مصرف مركزي ( البنك المركزي الأوربي ) وهو ما تملكه اليوم ويقود سياساتها النقدية بعملة واحدة وهي اليورو ونظام ضريبي وهيكل ضمان اجتماعي ، ومن المؤكد أن هذه الدولة الفيديرالية ستنعكس ايجاباً على اليورو ليأخذ حيزاً مهماً في السوق العالمية للتجارة حيث يقدر حجم اقتصادها 17 تريليون دولار ضمن مجموع دول الاتحاد الأوربي ككل .
أما على صعيد تجمع دول البريكس، والتي تضم كلاً من الصين وروسيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا، فإنها تخطط بقيادة الصين للتخلص التدريجي من هيمنة الدولار مستخدمة مجموعة من الأدوات والسياسات التجارية من بينها ، الصفقات التبادلية ، حيث تجري بين الصين وروسيا نظام المقايضة والمعيار الذهبي ، كما يجري الترتيب مع مجموعة من الشركاء بالتجارة على تسوية الصفقات باليوان الصيني كما أسست وفق ما بيناه أعلاه بورصة الذهب باليوان والذي تتم كل صفقاته تقريباً بالعالم بالدولار والتي تشكل 170 مليار دولار سنوياً وهو ثاني حجم تجارة عالمية بعد النفط كمؤثر على الدولار والذي نتج عن اتفاقية غير رسمية بين الرياض وواشنطن في سبعينيات القرن الماضي على تحديد بيع النفط بالدولار مما شكل غطاء للدولار لليوم ، نبقى بانتظار ما يخبئه العالم لنا من تغيرات وتقسيمات وتوزيع مناطق سلطة إن كان سياسياً أو حتى تكتلات اقتصادية وانهيار بروتوكولات ومعاهدات دولية وحتى مفاهيم جديدة بعالم الاقتصاد كتراجع مفهوم العولمة الذي سبب ما سبب من اشكالات بعد تعرض العالم لوباء فقدوا السيطرة عليه وعرى أغلب منظوماتهم الصحية والاجتماعية والتي ستلعب دوراً هاماً بمعنى الخروج من الهيمنة المالية للدولار.