
يدلّل الالتفاف الشعبي حول القادة على نجاح الثورة، كما أن من علامات نجاحها مدى ما تساهم به من تجميع للقوى الشعبية، الإثنية والطائفية والأيديولوجية، بل وكسب ودّ (وتأييد) المكوّنات الوطنية كلّها، وصولاً إلى مشاركة الجميع في صياغة مسارات الانتصار تلك، ومن ثمّ إعادة بناء الحقيقة الجديدة ضمن جامع وطني، لا بدّ من الاشتغال عليه حثيثاً، وتفعيل آليات الفواعل الاجتماعية والسياسية كلّها، وجلّ أنساق الجموع الشعبية، التي وقفت إلى جانب ثورات الشعب وانتفاضاته وتضحياته. يضاف إلى ذلك أهمية العمل الجدّي وضرورته من أجل كسب اصطفاف تلك الفئات الاجتماعية إلى جانب الثورة، وخاصّة التي آثرت قبل ذلك الانزواء و”الجلوس في الكنبة”، خلال فترة الفوران الشعبي والكفاح، وصولاً إلى يوم النصر، يوم إنهاء نظام الاستبداد بكلّيته، وكنس عوامل القهر التي فعلت فعلها في أتون واقع مجتمعي لاقى ما لاقاه من ظلم، ضمن فترة سادها ظلام دامس، خلال حكم الاستبداد وأدواته.
وفي الانتقال إلى الحالة السورية، هل استطاعت الإدارة الجديدة في سورية الإمساك بناصية التغيير الحقيقي المُعبّر عن جموع الناس؟ وهل هي اليوم قادرة على جمع الناس كلّهم من أجل عملية البناء، وعلى إفساح المجال لأجواء الاستقرار الوطني السوري الذي يتمكن من أن يلمّ الناس ولا يفرّقهم، كما يجمع المكوّنات ولا يبعثرها، ثمّ يعيد إنتاج الواقع الجديد في سورية على أسس حداثية من الديمقراطية والحكم الرشيد، ومشاركة تلوينات (وفئات) السوريين جميعها في اتجاه إعادة صياغة العقد الوطني السوري الجامع المطلوب والمأمول فيه؟
لا يجوز المهادنة مع الأعمال التي تقضّ مضجع النسيج الوطني الوحدوي في سورية، المتعدّد الطوائف والإثنيات
أسئلة كثيرة، خطيرة وحسّاسة، من حيث إن الاجابة عنها باتت تحتاج حالة تماهٍ واندماج في الواقع السوري، بموضوعية وحسن نظر، وقدرة على امتلاك مسارات النظرة الواقعية الصادقة، التي لا تبتغي شيئاً سوى إعادة رسم ملامح واقع سوري جديد، يرتقي إلى مصاف الحلم وحيثياته، أو على الأقلّ بعض منه. ذاك الحلم الوطني السوري، الذي ضحّى من أجله الشعب السوري، بالغالي والنفيس، في طريق الحرية والكرامة، التي لا بدّ من تحقيقها في هدي أسس موضوعية، تواكب حالة التطوّر والتغيير والوعي المطابق لمستقبل سوري، ما زال يطمح إليه السوريون، ويساهم في لجم أي محاولات يمكن أن تفعل فعلها، لتخريب وهدم ما وصل إليه نضال الشعب السوري مع صباح يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024.
ما جرى في الساحل السوري أخيراً، من محاولة انقلابية فاشلة، وما بعدها من ردّات فعل طاولت النسيج المجتمعي السوري، وأفسحت المجال لإعلام خارجي ينتظر الفرصة لينقضَّ على صورة وملمح التغيير الحاصل في سورية، لم يكن ليمرّ من دون أن ندرك مستوى الخطر والخطورة اللذين أيقظا حالة من العصبية الطائفية، كان يفترض أن يكون هناك مستوى من الوعي يحول دونها، تشكّلت بعدها لجنة تحقيق وتقصّي حقائق ما زالت تعمل وتتابع اشتغالاتها، رغم صعوبة ذلك، من أجل تقديم مرتكبي الجرائم (المرتكبون كلّهم) للعدالة وتهدئة النفوس، إذ لا يجوز المهادنة مع مثل هذه الأعمال التي تقضّ مضجع النسيج الوطني الوحدوي في سورية، المتعدّد الطوائف والإثنيات، ولا التطمير على أخطاء كبيرة بهذا الحجم، كائناً من يكون مرتكبها.
بات عقد اجتماعي وطني جامع مطلباً سورياً من أجل سورية الحرّة الديمقراطية
كما أن ممارساتٍ كثيرة تجري في غير محافظة سورية، تؤشّر إلى أهمية ضبط العناصر المنفلتة من عقالها، ومنع أي انتهاكات مستقبلية بحقّ أي طائفة أو إثنية سورية، من حيث إن سورية وطن للجميع، لا فرق بين تكويناتها، ولا يجب أن يكون، بأي حال. هذه الممارسات، التي ما برحت تراقبها القوى الدولية والخارجية، وتراكمها، تساهم في منع رفع العقوبات عن سورية، وهو ما تحتاج إليه سورية في مرحلة إعادة البناء فيها، وتحتاج إلى رفعها فعلاً لا قولاً، من أجل الوقوف في الفعل الميداني في أتون إعادة البناء المفترضة. ومن ثمّ، فإن الدفع اليوم على المستويات كلّها إلى عقد مؤتمرات وطنية سورية حوارية، تراكم حالة صياغة جدّية لأساسات منطقية وعقلانية، ومُؤسِّسة بحقّ لسورية الحرّة الديمقراطية، وصولاً إلى صياغة العقد الاجتماعي السوري الجديد، الذي باتت صياغته والتوافق عليه ضرورة، ويبدو أن صياغته وحدها هي التي تساهم في منع وجود الدعوات التفتيتية والانفصالية، سواء كان ذلك في الجنوب السوري (درعا والسويداء)، أو في الساحل السوري، أو حتى شمال شرقي سورية، ولعلّ التفاهمات الموقّعة بين الإدارة السورية الجديدة، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والمضي قدماً في إنفاذها واقعاً عبر البدء بمحافظة حلب، والاستمرار بعد ذلك في باقي المحافظات لتطبيق بنودها كلّها… لعلّ ذلك يشجّع أهل الجنوب السوري، خاصّة في مناطق جبل العرب والسويداء، لصياغة تفاهم حقيقي يساهم في قطع الطريق كلّية على أي جهة خارجية من أن تلعب على خطر الوتّر الطائفي، تهيئة لاندراج الجميع في الحالة الوطنية السورية، ويمهد الطريق أيضاً، نحو إطلاق صيغة وتوافق العقد الوطني الاجتماعي السوري الجامع. والحقيقة أن هذا الأمر ليس مستحيلاً على الواقع السوري الوطني، الواعي خطورة ما يجري في الداخل والمحيط، وبوجود نيّات حسنة وواعية، وبعد وطني سوري يتجاوز الهفوات، ويؤسّس أرضية وطنية صلبة لا يستطيع أحد أن يذرّرها، أو يشظّيها في الأيّام المقبلة.
ويقول واقع الحال إن هذه التحدّيات ليست سهلة ولا سلسة، إذا ما أراد السوريون التصدّي لها، لكنّها ممكنة التحقيق فيما لو توافرت النيّات الحسنة، والأفعال التي تتوافق مع تلك النيّات من السلطات السورية في دمشق أولاً، ومن ثمّ من الفواعل المجتمعية السورية كلّها نحو عقد اجتماعي وطني، ولا بدّ أن يكون جامعاً، وبات اليوم مطلباً سورياً لدى مجمل النُّخَب، وجموع الناس، من أجل سورية الحرّة الديمقراطية، ومن أجل الوطنية السورية، وبناء المجتمع المدني السوري، وقيام دولة المواطنة المنشودة، دولة القانون وسيادته.
المصدر: العربي الجديد