من يوقف حرب غزّة… “حماس” أم المجتمع الدولي؟

أمجد أحمد جبريل

على الرغم من كثرة الآراء التي تحمّل حركةَ المقاومة الإسلامية (حماس) المسؤوليةَ عن إيجاد مخرج من حرب غزّة الراهنة، بوصفها المبادِرة إلى شنّ هجوم 7 أكتوبر (2023)، فإن هذه السطور تُحاجج بأن “حماس” (والفصائل الفلسطينية عموماً) لا تستطيع، مهما فعلت، تقديم إجابة شافية عن السؤال المصيري: مَن يوقف حرب غزّة؟ إذ بات واضحاً لكل ذي عينَين مدى تعقيد تداعيات الحرب، وصِلتها بالأبعاد الدولية والإقليمية التي تملك القولَ الفصلَ في فرض قرار وقف الحرب، في حال تبلور الإرادات السياسية للأطراف الدولية والإقليمية والعربية في هذا الاتجاه. وفي سياق البحث عن مخرج لوقف حرب غزّة، سيّما بعد استئنافها بشراسة أكبر (18/3/2025)، ثمّة خمس ملاحظات: أولاها، محدودية قدرة “حماس” (وفصائل المقاومة الفلسطينية عموماً) في الضغط على إسرائيل لوقف الحرب، والرهان المبالغ فيه على ورقة/ ملفّ المحتجزين الإسرائيليين في غزّة، خصوصاً في وجود حكومة نتنياهو المتطرّفة التي استطاعت (ولو آنياً) تحجيم أثر هذا الملفّ، وتهدئة عائلات المحتجزين، في مقابل تصعيد هاجس الأمن والتهديد الوجودي الذي تشكّله “حماس” (ومحور إيران الإقليمي) على أمن إسرائيل.

حدّ افتقاد “حماس” إلى استراتيجية نضالية من قدرتها على ترجمة صمودها الميداني مكاسبَ سياسيةً

واستطراداً في التحليل، كشفت الحرب جملةً من المفارقات اللافتة؛ إذ امتلكت حركة حماس القدرة على المبادرة في “طوفان الأقصى”، لكنّها عجزت عن إيقافها أو حتى تهدئتها، ناهيك عن إرغام قوات الاحتلال على الالتزام ببنود اتّفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى في قطاع غزّة (15/1/2025). وعلى الرغم من نجاحها في تفجير مفاجأةٍ استراتيجية أفضت إلى إرباك الاستراتيجيات الإسرائيلية (والإقليمية كلّها)، فإن “حماس” نفسها لم تمتلك استراتيجيةً حقيقيةً (أبعد من التكتيكات القتالية والميدانية في استنزاف قوات الاحتلال)، إذ تصدّى مقاتلوها ببسالةٍ لقوات الاحتلال التي امتلكت (ولا تزال) قدرةً هائلةً على التنكيل بأهالي غزّة، وصولاً إلى ارتكاب جريمة إبادة جماعية متكاملة الأركان، لكنْ من دون قدرة على حسم الصراع، سواء مع “حماس” أو غيرها من أطراف المحور الإقليمي الإيراني، وَحَدَّ افتقاد “حماس” استراتيجيةً نضاليةً من قدرتها على ترجمة صمودها الميداني مكاسبَ سياسيةً فورية، في ظلّ ثلاثة عوامل فلسطينية؛ أولها اختزال “حماس” العملية السياسية التفاوضية كلّها في إبرام صفقة تبادل أسرى، وثانيها انكشاف المجتمع الغزّي والمؤسّسات المدنية (المستشفيات، المدارس… إلخ) أمام جحيم حرب الإبادة، وثالثها تداعيات استمرار الانقسام على إضعاف مجمل الحالة الفلسطينية، على الرغم من إعلان بكّين للمصالحة الفلسطينية (23/7/2024).
وإلى ذلك، ثمّة تراجع في خطاب “حماس”، كشفه تكرار مناشداتها الدول العربية والإسلامية بالتدخّل لوقف حرب غزّة، مقارنةً بخطاب الناطق باسم كتائب عزّ الدين القسّام، أبو عبيدة (28/10/2023)، الذي قال فيه، مخاطباً النظم العربية، “لا نطالبكم بتحريك جيوشكم ودبّاباتكم، لا سمح الله، ولكن ما لا نستطيع فهمه وتفسيره، هل وصل بكم الضعف والعجز إلى أنكم لا تستطيعون تحريك سيارات الإغاثة والمساعدات الإنسانية إلى جزء من أرضكم العربية الإسلامية الخالصة؟”، ويكشف هذا التراجع طبيعة مأزق “حماس” (والأطراف العربية والإقليمية والدولية كلّها) أمام أهوال حرب الإبادة، سيّما استخدام التجويع سلاحاً سياسياً ضدّ أهالي غزّة.
تتعلّق الملاحظة الثانية بإخفاق “حماس” (رغم صمودها منقطع النظير) في تغيير المعادلات العربية، على نحوٍ يدفع الدول العربية الكبيرة، خصوصاً مصر والسعودية إلى استخدام أوراق قوتها في الضغط على واشنطن لفرض وقف الحرب، إذ فشل الإطار العربي، ومؤسّسات جامعة الدول العربية، حتى في كسر حصار غزّة، وإجبار إسرائيل على إدخال قوافل الغذاء والدواء والوقود، على الرغم من قرارات القمّة العربية الإسلامية في الرياض (11/11/2023) في هذا الصدد، إذ غابت الإرادة السياسية المطلوبة، واكتفت أغلب السياسات العربية بدبلوماسية البيانات، ولم تتبلور استراتيجيةٌ عربية لدعم أهالي غزّة وقضية فلسطين. وبالتالي؛ فشل العرب في بلورة توجّهٍ رسمي جديد لزيادة البدائل والخيارات، بدلاً من استمرار الرهان على التسوية، بوصفها خياراً استراتيجياً عربياً وحيداً. لقد شجّع “تكيّف” العرب ومصر مع الضغوط الأميركية الإسرائيلية على التمادي في حرب الإبادة والتهجير، سواء في غزّة أو في الضفة الغربية، وصولاً إلى تغيير قواعد اللعبة الإقليمية، بصورة كبيرة؛ وإثارة الشهية الصهيونية، لتحويل المشرق العربي برمّته منطقةَ نفوذ إسرائيلية، والتصرف بعقلية المنتصر الذي يُملي شروطه المتعسّفة، من دون أدنى اكتراث لردّات الفعل العربية، التي كانت في حدّها الأدنى، بالتوازي مع “التظاهر العربي الرسمي بالعجز” عن الفعل والتأثير.

يواجه الرئيس ترامب إشكالية ضبط الفاعل الإسرائيلي، قبل الانحدار إلى سيناريو “الفوضى الإقليمية الشاملة

تتعلّق الملاحظة الثالثة بالبعد الإسرائيلي الداخلي، وأثره في وقف الحرب. وعلى الرغم من نجاح نتنياهو في صدّ الضغوط الخارجية إجمالاً، فإنّ استئناف الحرب سيولّد ضغوطاً داخلية إسرائيلية تكشف تزايد المخاطر على الاقتصاد الإسرائيلي، وانكشافه على الأزمات العالمية، ناهيك عن تداعيات تصاعد عدم الاستقرار السياسي في إسرائيل (بسبب عودة موضوع التعديلات القضائية، والكلفة الاقتصادية لعدم تجنيد الحريديم، وهي حوالى عشرة مليارات شيكل سنوياً، ما يعادل 0.6% من الناتج المحلي الإجمالي)، ومحاولات إقالة المستشارة القانونية للحكومة ورئيس الشاباك. وليس بلا معنى في هذا السياق التململ المتصاعد في الجيش الإسرائيلي بسبب عودة الحرب، خصوصاً بعد فصل رئيس أركان الجيش إيال زامير، وقائد سلاح الجو تومر بار، نحو ألف عنصر احتياط من القوات الجوية بسبب توقيعهم رسالةً تدعو إلى إعادة المحتجزين ووقف الحرب، التي تحوّلت تدريجياً كرةَ ثلج استقطبت تأييد مئات من جنود الاحتياط في الوحدة 8200 الاستخبارية، كما أيدها 150 ضابطاً سابقاً من سلاح البحرية، ومئات من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما أثار تصريح نتنياهو بأن هؤلاء “مجموعة هامشية ومزعجة، تحاول مرة أخرى تحطيم المجتمع الإسرائيلي من الداخل، وهدفها واحد، وهو إسقاط حكومة اليمين”.
تتعلّق الملاحظة الرابعة بأثر البعد الإقليمي في وقف الحرب، إذ يواجه الرئيس ترامب إشكالية ضبط الفاعل الإسرائيلي، قبل الانحدار إلى سيناريو “الفوضى الإقليمية الشاملة”؛ إذ سيؤدّي ترك واشنطن الحبل على الغارب لحليفها الإسرائيلي إلى نتائج خطرة عدّة؛ أولاها تضييع فرصة إنجاز التطبيع السعودي الإسرائيلي التي يحلم بها سيّد البيت الأبيض، لتعزيز حظوظه في الحصول على جائزة نوبل للسلام، وثانيها احتمال توتّر العلاقات الأميركية التركية بسبب الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على سورية، وثالثها الاندفاع الأميركي نحو ضرب إيران عسكريّاً بمشاركة إسرائيلية، كما صرّح ترامب عشية مفاوضات عُمان بين واشنطن وطهران، ورابعها توتير العلاقات مع مصر والأردن بسبب إصرار واشنطن على تهجير أهالي غزّة.
تتعلّق الملاحظة الخامسة بأثر البعد الدولي في إمكانية وقف حرب غزّة، وهو أكثر الأبعاد تعقيداً وتأثيراً في الحرب، إذ يتصارع اتجاهان كبيران في هذا الصدد، أحدهما الاتجاه الأميركي الإسرائيلي المَجري (إضافة إلى دول أخرى أقلّ وزناً)، المعادي من حيث المبدأ لحرية فلسطين، خصوصاً جهود محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية، إذ تضغط إدارة ترامب لإدراج حرب غزّة ضمن سياساتها الدولية والإقليمية، ما يعني حُكماً تهميش فلسطين وغزّة ومنظومات القانون الدولي وحقوق الإنسان… إلخ. في مقابل الاتجاه الآخر، المؤيد لقضية فلسطين، أقلّه عبر الحراك الطلابي والمظاهرات العالمية الضاغطة لتحقيق ثلاثة أهداف: وقف الحرب، ووقف تسليح إسرائيل، وعودة محاكمة قادتها السياسيين وجنرالاتها إلى واجهة الأحداث.

إيجاد استراتيجية خروج من حرب غزّة مسألةٌ عالمية وإقليمية وعربية، أكثر من كونها شأناً فلسطينياً أو حمساوياً

وعلى الرغم من ميل موازين القوى الحاليّ نحو المحور الأميركي الإسرائيلي، ونجاح حكومة نتنياهو في توظيف المرحلة الانتقالية التي يمرّ بها النظامان الإقليمي والدولي لتسريع تنفيذ مشروعها الاستعماري، سواء في فلسطين أو في لبنان وسورية، أو حتى في منطقة الشرق الأوسط إجمالاً، ثمّة تحدّيات متصاعدة قد تؤدّي في محصلتها النهائية إلى تآكل نفوذ محور واشنطن – تلّ أبيب، بسبب نتائج سياسات ترامب في زيادة الرسوم الجمركية على دول العالم، خصوصاً الصين، واضطرابات الأسواق المالية العالمية، وتوقّع موجة ركود عالمي، ستسهم في تصاعد الانقسامات الداخلية الأميركية بالتوازي مع انقضاء الشهور الأولى من عمر إدارة ترامب من دون إنجازات دبلوماسية واضحة، وعلى الرغم من احتمال نجاح إدارة ترامب (عبر أدوات متعدّدة) في التضييق على مظاهرات طلاب الجامعات الأميركية، فإن أشكال وأفعال المتضامنين الدوليين مع غزّة ستبقى متجدّدة في إبداعاتها (مثالان استقالة ابتهال أبو السعد وفانيا أغراوال من وظيفتيهما في شركة مايكروسوفت انتصاراً لغزة، وإلقاءُ نشطاء من منظمة السّلام الأخضر في بريطانيا في 10 إبريل/ نيسان الجاري 300 لتر من الصبغة الحمراء في بحيرة داخل السفارة الأميركية بلندن، احتجاجاً على تزويد واشنطن إسرائيل بالأسلحة).
تبقى فكرتان، إحداهما أن احتمال نجاح واشنطن في وقف عولمة قضية فلسطين يبقى ضئيلاً، سيّما بعد تصاعد التوتّر في العلاقات الأميركية مع الحلفاء والخصوم، ما يتيح فرصةً لتشكيل ائتلافٍ عالميٍ لدعم فلسطين، بالتوازي مع تدشين مسار عمليةٍ عالميةٍ طويلةٍ لعزل إسرائيل ومعاقبتها على جرائمها، خصوصاً بعد انضمام دولٍ عدّةٍ إلى قضية الإبادة المرفوعة من جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل، وكذلك بعد إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكّرات اعتقال بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، ووزير الأمن السابق يوآف غالانت. والأخرى أن الأولوية الآن إيجاد استراتيجية خروج من حرب غزّة، علماً أنها مسألةٌ عالمية وإقليمية وعربية أكثر من كونها شأناً فلسطينياً أو حمساوياً، على الرغم من حاجة فصائل المقاومة الفلسطينية إلى بلورة استراتيجية نضالية تسهم في تحقيق العدالة والحرية للشعب الفلسطيني، بالتوازي مع اعتماد تكتيكات جزئية، تساعد في حلّ معضلة غزّة، ضمن إطار أوسع يعيد تعريف قضية فلسطين على الصُّعد العربية والإقليمية والعالمية.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى