رسالة إلى وزير الثقافة

نهى سويد

إنَّ بناءَ نهجٍ ثقافيٍّ راسخٍ يتطلَّبُ، بلا رَيْبٍ، توازُنًا دقيقًا بينَ الحريَّةِ التي تفتحُ أمامَنا آفاقَ الفكرِ، والمسؤوليَّةِ التي تفرضُها ضرورةُ الحفاظِ على الذاكرةِ. وهو مسارٌ طويلٌ، محفوفٌ بالتحدياتِ، يحتاجُ إلى حكمةٍ فذَّةٍ للحفاظِ على الهويةِ الثقافيةِ المتجذِّرةِ في أعماقِنا، مع الانفتاحِ المدروسِ على مقتضياتِ العصرِ. فهل نحن مستعدُّون للانخراطِ في هذا المسارِ المُلحِّ والشاقِّ، الذي يتطلَّبُ منا التوازنَ بينَ التجديدِ والتمسُّكِ بالثوابتِ؟ المستقبلُ ساحةٌ مفتوحةٌ لمن يجرؤُ على طرحِ الأسئلةِ التي تمسُّ صميمَ هويتِنا، ولمن يمتلكُ الشجاعةَ للإجابةِ عليها.
إنَّ تساؤلاتِي هي محاولةٌ صادِقةٌ للفهمِ، وحديثِي لا يرمي للتملُّقِ والمداهنةِ، كما أنَّه ليس تجنِّيًا أو هجومًا أو حُكمًا مسبَقًا. أنا مواطنةٌ نالَ منها الخذلانُ وأثقلَتْها عقودٌ من التزييفِ الثقافيِّ، فمنذ زمنٍ، تبلَّدتْ مشاعِري أمامَ الحماسةِ اللغويةِ، وصِرتُ أبحثُ عمَّا وراءَها عن معنىً لا يتكئُ على الزخرفةِ، ولا يختبئُ خلفَ الجملِ الموزونةِ. لم يعد يؤثِّرُ فيَّ أن يُتقنَ المسؤولُ فنَّ الخطابةِ، وأصبحتُ أسألُ: ما هي مصادرُ ثقافتِه؟ ماذا قرأ؟ كيف تشكَّلَ وعيُه؟ هل انفتحَ على علومِ الأممِ، وحضاراتِ الشعوبِ، أم ظلَّ أسيرًا لتيَّاراتٍ مغلقةٍ يُعيدُ تدويرَ أفكارِه؟ أيُّ كتبٍ حفَرَتْ في عقلِه؟ هل اختبرَ اختلافَ الثقافاتِ، ومارسَ حرِّيَّةَ الفكرِ، أم كان سجينًا لأطرٍ ضيِّقةٍ؟
اليومَ لا نكتفي بنوعيَّةِ الثقافةِ ومصدرِها، فالأهمُّ هو كيف تُترجمُ تلكَ الثقافةُ إلى سلوكٍ حيٍّ وواقعٍ ملموسٍ، فكم من مسؤولٍ تجمَّلَ بشهاداتٍ رفيعةٍ من أعرقِ الجامعاتِ، وتوشَّحَ بأوسمةِ الفكرِ، فاندفعنا خلفَ الحماسةِ، وخُيِّلَ إلينا أنَّ الغدَ يبشِّرُ بأملٍ جديدٍ، فإذا بأفعاله تتناقضُ مع أقوالِه وتكشفُ اختلافَ نواياه.
المشهدُ الثقافيُّ السوريُّ تحوَّلَ منذ عقودٍ إلى ساحةٍ للخُطبِ أكثرَ منه ورشةً للفكرِ. ميدانًا لبياناتٍ تلوكُ ذاتَ الكلماتِ، نحنُ شعوبٌ تهوى الإنشاءَ، نتقنُ زخرفةَ العباراتِ، وتُعيدُ تدويرَ المفرداتِ المُترفةِ. لم نتخلَّصْ من إرثِ الخطابةِ منذ الجاهليةِ، بل أعدَّنا إنتاجَها بطرقٍ أكثرَ إبهارًا وأكثرَ قدرةً على دغدغةِ المشاعرِ. ما زلنا نفتتنُ بالكلامِ المُرتَّبِ، بالنبرةِ الواثقةِ، بالخطبةِ التي تشبهُ الطلقةَ أو الموشَّحَ. نهتزُّ مع رنَّةِ الصوتِ العاليةِ، ونصفِّقُ للجملِ الموزونةِ.
عندما سمعتُ قولك (أن نفتتَّ ونبتعد عن كلِّ المنظومةِ الثقافيةِ التي كان يتبناها الوضيعُ البائدُ الهاربُ)، رحتُ أتساءلُ: هل هو إعلانٌ عن فصلٍ حقيقيٍّ مع حقبةٍ ثقافيةٍ فرضت معاييرَها القسريةَ على العقلِ السوريِّ وأفقرت الفكرَ الإبداعيَّ حيث قدمت الولاءَ على الإبداعِ ولم ينجُ من هذه المهزلةِ إلا من رحمَ ربّي؟ إنَّ هذا الفصلَ، الذي نبحثُ عنه اليوم، هو في الحقيقةِ ضرورةٌ تقتضي الارتباطَ بجوهرِ التغييرِ الذي يعصفُ بالمشهدِ الثقافيِّ. فالحداثةُ والانفتاحُ، التي بقيت حبرًا على ورقٍ، كانت مؤشِّراتٍ على التناقضِ الواضحِ بينَ ما يعلنه النظامُ وبينَ ما يمارسه فعليًّا. حيثُ سيطرَ أزلامُ البعثِ على المناصبِ الحيويةِ في المؤسساتِ الثقافيةِ، مستبعدين المثقفينَ الحقيقيينَ الذين يُفترضُ بهم أن يكونوا محركي هذا الانفتاحِ الفكريِّ. وبذلك، تمَّ تسييرُ هذه المؤسساتِ وفقَ ما يخدمُ مصالحَ النظامِ، بينما تمَّ إقصاءُ وتهميشُ أولئك الذين حاولوا تقديمَ خطابٍ ثقافيٍّ مستقلٍّ أو نقديٍّ.
ولكن كيف ستوازنون بينَ ضرورةِ الحفاظِ على الهويةِ الثقافيةِ الوطنيةِ الحقيقيةِ، التي تعكسُ تطلعاتِ الشعبِ السوريِّ، وبينَ التأثيراتِ السياسيةِ والاجتماعيةِ التي قد تفرضُها السلطةُ في كلِّ مرحلةٍ؟ وكيف يمكنُ تجاوزُ هيمنةِ السلطةِ على المشهدِ الثقافيِّ بحيثُ يتمُّ تمكينُ المفكرينَ والمبدعينَ الحقيقيينَ من التعبيرِ بحريةٍ بعيدًا عن التوجيهاتِ الرسميةِ؟ لا أخفيكَ بأنني كنتُ أنتظرُ منكَ تقديمَ رؤيتك حولَ ما قلتهُ، لكنك اختصرتَ القولَ بجملتينِ خطابيتينِ، جوهرُ فعلهما إثارةُ التصفيقِ.
لفتني تصريحُك لإحدى القنواتِ عن حريةِ الفنونِ (بأننا نحنُ من رفعنا سقفَ الحرّيةِ ولن نفرضَ أيَّ شكلٍ من الوصايا على الفنونِ ولن نمارسَ الضبطَ إلا على ما يستحقُّ الضبطَ). لا أريدُ أن أسألك: من نحنُ؟ فقد أوضحتَ المقصودَ، رغمَ تحفُّظي على هذه الصيغةِ لما تتضمنه من فخرٍ واستعلاءٍ قد يكونانِ في غيرِ محلِّهما ولا يتناسبانِ الآن مع طبيعةِ هذا المشهدِ المعقَّدِ. اعذرني، لقد أُصبنا بحساسيةٍ مفرطةٍ تجاهَ المفرداتِ وتعبنا من التحليلِ والتأويلِ، لذلك أدعوكَ لأن يكونَ كلامُك واضحًا صريحًا متسمًا بالشفافيةِ ومحمَّلًا برؤيةِ النهوضِ. وإنَّما سؤالي: من ذا الذي يملكُ حقَّ الضبطِ، وبأيِّ معيارٍ يُرسمُ حدُّه؟ أهو ميزانُ الفنِّ الخالصِ، حيث لا صوتَ يعلو فوقَ إتقانِ الصنعةِ ورسوخِ الإبداعِ، أم هي عصا الأيديولوجيا والموروثِ، التي طالما كبَّلت الفنونَ تحت ذريعةِ الأخلاقِ وحراسةِ القيمِ؟

وإن كان الضبطُ درعًا لحمايةِ المجتمعِ من خطاباتِ الكراهيةِ والتحريضِ، فهل هو ضرورةٌ تفرضُها المسؤوليةُ الأخلاقيةُ أم قيدٌ يُحاكُ لإخراسِ الأصواتِ الخارجةِ عن النسقِ؟ أهو تقويمٌ للفنِّ أم تطويعٌ له ليغدو بوقًا ناطقًا برؤيةِ السلطةِ؟

وإن كان الضبطُ درعًا لحمايةِ المجتمعِ من خطاباتِ الكراهيةِ والتحريضِ، فهل هو ضرورةٌ تفرضُها المسؤوليةُ الأخلاقيةُ أم قيدٌ يُحاكُ لإخراسِ الأصواتِ الخارجةِ عن النسقِ؟ أهو تقويمٌ للفنِّ أم تطويعٌ له ليغدو بوقًا ناطقًا برؤيةِ السلطةِ؟
إنَّ قيدَ الإبداعِ – إذا استحكمَ – قد ينحرفُ من كونه ضمانةً لجودةِ الفنِّ إلى أداةٍ تسوّغُ الوصايةَ، تُهيمنُ بها السلطةُ على فضاءِ التعبيرِ، فيغدو الفنُّ مُسيَّجًا بمنظومةٍ رقابيةٍ تفرغه من جوهرهِ، بدلًا أن يكونَ ميدانًا رحبًا للتجريبِ والمجاوزةِ. ومع ذلك، فالفنُّ ليس طليقًا في فراغٍ بلا ضفافٍ، بل هو جدليةٌ محتدمةٌ بينَ الحريةِ والمسؤوليةِ. فكيف يتحققُ الاتزانُ بينهما من دونَ أن ينحرفَ الضبطُ إلى القمعِ، ومن دونَ أن تنقلبَ الحريةُ إلى فوضى تُجهزُ على روحِ الإبداعِ؟
أوافقُك الرأيَ بأنّه قد آنَ الأوانُ لضبطِ إيقاعِ سوريا على نبضِ العالمِ، ويا لهُ من تعبيرٍ يوحي بالتفاؤلِ، لاسيما أنّك تعلّمتَ وعشتَ في بريطانيا، مما يشي بانفتاحٍ على ثقافةٍ ترسّخت فيها حريةُ التعبيرِ كقاعدةٍ لا كاستثناءٍ. وهذا ما يدفعني للتساؤلِ: هل تأمّلتَ مسيرةَ ألفريد هيتشكوك، ذلك المخرج البريطاني الذي أسّسَ لجمالياتِ الرعبِ النفسيِّ وسحرَ العالمِ برؤاه السينمائية؟ هل شاهدتَ The Crown، العملَ الدراميَّ الذي عرّى المؤسسةَ الملكيةَ البريطانيةِ، وسلّطَ الضوءَ على تعقيداتها السياسيةِ والاجتماعيةِ، في حين كانت الملكةُ إليزابت الثانيةُ لا تزالُ على العرش؟ هل مررتَ على مسلسل “The Tudors”، الذي غاصَ في دهاليزِ حكمِ الملكِ هنري الثامنِ وعرّى الصراعاتِ الدينيةِ في أوروبا، بكلِّ ما فيها من وحشيةٍ ومجازرِ حتى تلك التي أسهم فيها رأسُ الدولةِ نفسه؟ أو ربّما “The Last Kingdom”، الذي استعرضَ مخاضَ نشأةِ بريطانيا بكلِّ قسوةٍ لا تعرفُ التجميلَ ولا المداراة؟ أو مسرحُ شكسبير العابرُ للزمنِ والحدودِ، ذلك الفضاءُ الذي خاطبَ كلَّ ذاتٍ إنسانيةٍ، فاخترقَ المسكوتَ عنه، وفكّكَ الأنساقَ الحاكمةَ.
هذا هو إيقاعُ العالمِ، حريتُه في طرحِ قضاياهِ، جرأته في مقاربةِ تاريخهِ، وفنيّتُه العاليةُ التي لا ترضخُ لوصايةٍ أو تكميمٍ. فهل ستكونُ حجرَ الأساسِ في نهضةٍ ثقافيةٍ تمكّنُ الفنَّ السوريَّ من الخروجِ من عزلتهِ ليحاكي هذا الإيقاعَ، أم أنَّ الضبطَ الذي تحدّثتَ عنهُ قد يصبحُ قيدًا لا بوابةً للانطلاقِ؟
اعذرني يا سيادةَ الوزير، أجدُّ نفسي في مقامِ السؤالِ الذي لا يحتملُ المواربةَ: كيف يُعادُ ترميمُ المشهدِ الثقافيِّ السوريِّ على أسسٍ متينةٍ بعد أن تهدمتْ أركانُه، ليكونَ رافعةً فكريةً تحرّضُ على التساؤلِ، وتفتحُ أفقًا جديدًا للنقدِ والتأملِ، بعيدًا عن الانقيادِ الأعمى للأيديولوجياتِ التي جمدتْ الفكرَ وقيّدتْ الإبداعَ؟
سوريا اليومَ بحاجةٍ لتأسيس نهجٍ ثقافيٍّ جديدٍ يرمّمُ خرابَ العقولِ، ويعيدُ بناءَ الوعيِ الجمعيِّ بعد أن أصابهُ التصحّرُ، بحاجةٍ إلى سياسةٍ ثقافيةٍ تتجاوزُ التلقينَ وتقتحمُ أفقَ التحررِ الفكريِّ. تُعيدُ للناسِ قدرتهم على التفكيرِ النقديِّ وتفتحُ أمامهم أفقًا جديدًا بعيدًا عن التحكمِ والسيطرةِ.
الثقافةُ، فعلٌ يوميٌّ يتغلغلُ في السلوكِ العامِّ، في طريقةِ التفكيرِ، في قدرةِ الإنسانِ على التحليلِ، في إدراكهِ لذاتهِ وللآخرين.. فأيُّ مشروعٍ ثقافيٍّ لا ينبثقُ من عمقِ الحياةِ اليوميةِ، حيثُ تصبحُ الثقافةُ ممارسةً متجذرةً في الوعيِ والسلوكِ، قادرةً على المساءلةِ والنقدِ والخلقِ، سيظلُّ حبيسًا للنخبِ، منقطعًا عن النسيجِ المجتمعيِّ، عاجزًا عن إحداثِ تحولٍ حقيقيٍّ. وهنا يبرزُ السؤالُ الأهمُّ: هل لدى المؤسساتِ الثقافيةِ رؤيةٌ واضحةٌ للتنسيقِ مع المنظومةِ التعليميةِ، بحيثُ تصبحُ المدارسُ والجامعاتُ مختبراتٍ للخيالِ والإبداعِ، تحرّرُ العقولَ من أنماطٍ ذهنيةٍ متكررةٍ، وتبني جيلًا يمتلكُ أدواتِ التفكيرِ النقديِّ عوضًا عن التلقينِ؟
ثمَّ ماذا عن المثقفين السوريين في المنافي، أولئك الذين لم ينفصلوا يومًا عن قضاياهم رغم قسوةِ الشتاتِ؟ هل ستُمدُّ إليهم الجسورُ، ليكونوا جزءًا فاعلًا في إعادةِ تشكيلِ المشهدِ الثقافيِّ، أم ستظلُّ الثقافةُ السوريةُ منكفئةً على ذاتِها، متوجِّسةً من كلِّ من لم يبقَ في دائرتِها الضيقةِ؟
إنَّ البعدَ الدوليَّ لا يقلُّ أهميةً عن غيره، بل ربَّما يكون ركيزةً أساسيةً في إعادةِ تموضعِ الثقافةِ السوريةِ عالميًّا. فعقودٌ من العزلةِ جعلت المشهدَ الثقافيَّ السوريَّ رهينًا للخطابِ الرسميِّ، ومعادلاتٍ سياسيةٍ ضيقةٍ. فكيف ستتجاوزُ وزارةُ الثقافةِ هذا الإرثَ المثقلَ بالقيودِ، لتنخرطَ في شراكاتٍ حقيقيةٍ مع المؤسساتِ الثقافيةِ العالميةِ، بعيدًا عن عقليةِ الارتهانِ السياسيِّ؟
في ظلِّ هذه التحدياتِ، تظلُّ إرادةُ التغييرِ قادرةً على إعادةِ ربطِ الماضي بالحاضر، وتأسيسِ هويةٍ ثقافيةٍ أصيلةٍ تنبضُ بروحِ الشعبِ السوريِّ وتطلعاتهِ المستقبليةِ، فهل تمتلكونها؟

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى