
تجمع تونس وليبيا علاقة تاريخية عميقة بحكم الجوار الجغرافي والتداخل الاجتماعي والمصالح الاقتصادية، لكن هذه العلاقة شهدت تقلّبات بين التقارب والتوتّر بسبب المتغيّرات السياسية والأمنية في البلدين اللذين يربط بينهما على المستوى الجغرافي شريط حدوي طوله 461 كيلومتراً، من البحر الأبيض المتوسط شمالاً إلى منطقة برج الخضراء جنوباً، حيث تلتقي الحدود التونسية – الليبية مع الحدود التونسية – الجزائرية، ويعدّ معبر رأس جدير البرّي أحد أهم المعابر بين البلدَين، يقع في الجنوب الشرقي لتونس، ضمن محافظة مدنين، ويربطها بالمنطقة الغربية لليبيا، تحديداً مع مدينة زوارة الليبية الخاضعة إدارياً لحكومة الوحدة الوطنية. يُعتبر هذا المعبر الأكثر نشاطاً، إذ يستخدمه يومياً ألوف المسافرين وناقلي البضائع. وهو يمثل شرياناً حيوياً للتبادل التجاري، خاصّة للسلع العابرة من تونس إلى ليبيا والعكس، كما يُستخدم من العائلات التي تربطها علاقات في كلا البلدَين. وتُعتبر عمليات التهريب عبر الحدود من أبرز أسباب التوتّر بين البلدَين، إذ يُهرّب الوقود والسلع المدعومة من ليبيا إلى تونس، في حين تُهرّب بعض المنتجات التونسية إلى ليبيا، مثل المواد الغذائية، بسبب نقصها في السوق الليبية. شهدت حدود البلدَين تصعيدا أمنياً متواتراً، ففي عام 2021، عُلّقت الحركة في معبر رأس جدير بسبب خلافات أمنية ودبلوماسية، واتهمت طرابلس تونس بعرقلة دخول المسافرين، إثر تصريحات تونسية عن توافد إرهابيين من ليبيا، ما أثار ردوداً غاضبة في طرابلس، تلتها احتجاجات في بن قردان التونسية عام 2022 من التجّار التونسيين بعد تضييق الإجراءات على عبور السلع من الطرف الليبي، وفي 2023، أغلقت ليبيا معبر رأس جدير بشكل مفاجئ فترة قصيرة، ما أدّى إلى أزمة بين البلدَين، واحتجاجات التجّار من الجانبين.
أخيراً، في بداية مارس/آذار الحالي، احتجزت السلطات التونسية ثلاثة ليبيين بتهم تتعلّق بتهريب مواد غذائية، أبرزها قضية الليبي وسيم شكمة، الذي حُكم عليه بالسجن خمس سنوات بتهمة تهريب 150 كيلوغراماً من مادة “الكسكسي” من تونس إلى ليبيا. ردّاً على ذلك، احتجزت السلطات الليبية 49 تونسياً بتهمة تهريب سلع، ما زاد من حدّة التوتّر بين البلدَين ودفع نوّاباً تونسيين إلى الدعوة إلى فرض المعاملة بالمثل، وطالبوا بفتح تحقيق في انتهاكاتٍ يتعرّض لها التونسيون في معبر رأس جدير، مشيرين إلى تعرّضهم لما وصفوه بـ”الإذلال والابتزاز”.
وفي خطوة لتقليص مخاطر هذا التصعيد الحدودي الأمني الذي ينذر بأزمة أكبر من ذلك، ويعبر عن إشكال في التواصل السياسي الدبلوماسي بين الجارتَين، توصّلت السلطات التونسية والليبية إلى اتفاق يقضي بتبادل المحتجزين، منهم المحكومون قضائياً، تبع ذلك إعلان من قوات إنفاذ القانون في ليبيا تسلمها المواطنين الليبيين، وتوثيق الحدث بالصوت والصورة. أثارت صور تبادل المحتجزين أسئلةً لدى كثيرين من التونسيين، واستهجانهم في الوقت نفسه شكلَ ومضمونَ العلاقة بين البلدَين، اللذين تربط بينهما علاقات وطيدة في الجغرافيا والتاريخ والنسب والمصالح التجارية والاقتصادية، كما تجمع بينهما تحدّيات مشتركة لا سيّما من الجانب الأمني، ولعلّ ملفّ المهاجرين غير النظاميين يعدّ أحد أهم الملفّات الحارقة والمطروحة على الطاولة أخيراً.
يعبّر التصعيد الحدودي عن إشكال في التواصل السياسي الدبلوماسي بين ليبيا وتونس
تهدر تونس وليبيا فرصاً عديدة، خاصّة أن تونس تجمعها مع جارتها حدودٌ تخضع لحكومة الوحدة الوطنية (المعترف بها دوليا)، وتمثّل مستقرّاً لبعثتي الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة لليبيا، كما لعبت تونس أدواراً دبلوماسية في دعم الاستقرار بليبيا واستضافتْ آلاف اللاجئين الليبيين إبّان ثورتها وتداعياتها، ما يؤهلها للمبادرة باستثمار هذه الفرص في تنمية البلدَين عوض الاستمرار في سياسة إدارة الأزمات. التعاون التجاري والاستثماري وتسهيل الإجراءات الجمركية وتحسين وتطوير المعابر الحدودية بين البلدين كفيلة بأن تسهم في إنتاج الثروة في تونس وليبيا، وتقليص البطالة وتقليل حجم التجارة الموازية، إذ تعتبر ليبيا سوقاً واعدة للصادرات التونسية، خاصّة للمنتجات الغذائية والأدوية ومواد البناء والمنتجات الزراعية. في مقابل ذلك، تستورد تونس من ليبيا العديد من المواد الأولية التي لا تتجاوز 10% من حجم مبادلاتها التجارية حالياً، ويمكن تطويرها. وتعتمد تونس على ليبيا في استيراد النفط والغاز بأسعار تفضيلية في بعض الفترات. يُذكر أن دراسات عديدة أشارت إلى أهمية إنشاء مناطق للتجارة الحرّة عند الحدود بين البلدَين، وهي من الإجراءات التي ستؤدّي إلى تنظيم الدورة الاقتصادية، والخفض من التجارة الموازية، وإيجاد مواطن شغل.
وتجمع بين البلدين مصالح أخرى في مجالات عدّة مثل الاستثمارات في مشاريع الطاقة والطاقة المتجدّدة، والسياحة الثقافية والاستشفائية. ومن المؤسف أن تنحصر علاقة تونس وليبيا في بعض التنسيق الأمني، وإدارة الأزمات الدبلوماسية والمخاوف الأمنية، الناتجة من غياب الرؤية والتخطيط، وعدم الاستقرار في البلدَين (مع مراعاة الفوراق في الوضع والسياقات والتجربة)، في وقتٍ كان من الممكن الاشتغال على أن يكونا بوابة لأفريقيا في التجارة الدولية، ما سيمثّل ثورة تنموية واقتصادية في شمال أفريقيا عموماً.
ورغم تصريحات عن مساعي إعادة ضبط العلاقات من خلال تعاون أوسع، إلا أن التحدّيات السياسية في كلا البلدَين قد تعيق استقرار العلاقة بشكل دائم، لا سيّما مع تذبذب الموقف التونسي من حكومة الوحدة الوطنية، وانفلات سيل من التصريحات المستفزّة لليبيا وحكومتها من مقرّبين أو محسوبين على نظام قيس سعيّد في تونس، إلى جانب محاولات مسؤولين محسوبين على حكومة فتحي باشاغا المدعومة من مجلس النواب الليبي في طبرق، اختراق المشهد الدبلوماسي التونسي الرسمي في أكثر من مناسبة.
المصدر: العربي الجديد