وضعت الجغرافيا لبنان في قلب الصراع العربي الصهيوني وهو البلد المحاذي لفلسطين في شمالها.. لبنان هذا البلد الصغير لم يستطع أن يكون يومًا بمنأى عن نتائج هذا الصراع وتداعياته وآثاره في كل المجالات.. بدءا من نزوح أعداد كبيرة من الفلسطينيين إليه بعد نكبة ١٩٤٨ وصولًا إلى نكبة ٤ آب ٢٠٢٠.. لم تكن في لبنان يومًا سلطة مركزية قوية تضبط أوضاعه الداخلية والأمن فيه وتحل مشكلات أبنائه بما يخفف عنهم آثار هذا الصراع، إلا في ستينات القرن العشرين يوم أن كان للعرب قائد ورؤية ومشروع.. لم تكن السلطة اللبنانية قادرة على ردع الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة عليه.. ولبنان الذي تأسست دولته بتدخلات دولية قبل مئة سنة، فاستمرت ولم تتوقف عن التدخل في شؤونه وسياساته وتوجهاته يوما. تغيرت أسماؤها وأضيفت إليها أسماء جديدة وأدوات جديدة وتطورت وسائل التأثير والتدخل وصار أغلبها من وراء ستار وتحت مسميات جميلة براقة كالمساعدة الإنسانية والتعليمية والثقافية وتأهيل الكوادر المدنية والعسكرية وإعداد القيادات الشبابية وتأهيلها للمستقبل والمعونات الاقتصادية والتعاون الأمني، وما كان كل هذا إلا لتسهيل الاحتواء وفرض السياسات وتنفيذ المصالح ومن ثم الإلحاق وإلغاء الخصوصيات الوطنية التي تسمح بشيء من التميز والسيادة وتعطي للاستقلال بعض المعنى الواضح.. ومنذ نكبة فلسطين والاحتلال الصهيوني لها، تزايدت وتيرة التدخلات الأجنبية لأسباب إضافية تتعلق بأمن الكيان الجديد ومصالحه الإستراتيجية. واشتعل التخريب الصهيوني في لبنان واستطاع في مراحل ما أن يكون له جيش من اللبنانيين العسكريين وعدد كبير من المتعاملين معه، في السر أو في العلن.. ورغم أن لبنان لم يدخل الحرب يوما مع جيش الإسرائيلي المحتل، إلا أن هذا الأخير أحتل أرضا لبنانية واعتدى على لبنان مرات كثيرة وصلت إلى اجتياحه واحتلال عاصمته بيروت سنة ١٩٨٢.. كان الوجود الفلسطيني قد بلغ ذروته عقب أحداث أيلول الأسود بين الجيش الأردني والفدائيين الذي غادروا الأردن إلى لبنان وأصبحوا وهم المسلحون الناشطون، قوة نفوذ كبيرة محلية. وكان اصطفاف قطاع واسع من اللبنانيين إلى جانبهم؛ قد جعل منهم عنصرًا فاعلاً في الوضع الداخلي اللبناني. ورغم ذلك لم يكونوا سببا في إفساد السلطة أو تعطيل عملها.. كانت الحرب اللبنانية سنة ١٩٧٥ سببا في القضاء على الوجود الفلسطيني المسلح وهو ما تولاه النظام السوري الذي تعاقدت معه الولايات المتحدة للدخول العسكري إلى لبنان لإتمام هذه المهمة إلى جانب غيرها من المهمات.. وطيلة ٢٩ عاما كان النظام الأمني الحاكم في سورية، هو صاحب السلطة العليا في شؤون لبنان في معظم المجالات. وتحديدا في المجالين السياسي والأمني. وبالتالي كانت مؤسسات الدولة تحت سيطرة تلك الأجهزة الأمنية فأضعفتها وراكمت فيها كميات هائلة من الفساد ونسجت أنماطا من السلوك السلطوي الذي لا يستطيع أن يعمل إلا بوقود الفساد الذي يستفيد منه النظام الأمني إياه.. وكانت الخطوة الأساسية في هذا النسيج الجديد، إصرار النظام السوري على تسليم السلطة السياسية وكل مؤسسات الدولة لميليشيات الحرب ذاتها وهي التي مارست خلالها كل أنواع العدوان والارتهان والفساد وصناعة الحرب إلى أن برعت فيها وتميزت.. ومع فشل ثورة الأرز في تغيير شيء في نهج سلطة المحاصصة الطائفية والمذهبية؛ وكانت التدخلات الخارجية أحد أهم ذلك الفشل؛ تكرست هيمنة هذه السلطة على مؤسسات الدولة اللبنانية بعد أن أضيف إليها ” حزب الله ” الناشئ بفعل الدعم الإيراني والرعاية السورية الرسمية.. ثم جاء تحالف مار مخايل بين التيار العوني و ” حزب الله ” ليعلن مرحلة جديدة رعتها أمريكا جعلت من الحزب المذكور الطرف الشريك الأساس والأكثر فعالية في السلطة اللبنانية.. بعد أن تم التفاهم على عدة أمور على رأسها أمن حدود لبنان الجنوبية واستقرارها ودور فاعل في الوضع العربي والمشرقي بالذات.. وباستعراض كل هذه المراحل التاريخية ودراستها وتحليلها تتضح بعض الحقائق المهمة والتي تؤشر إلى احتمالات المستقبل اللبناني.. ١ – إن جميع مراحل وفترات التوتر والاضطراب التي عاشها لبنان منذ تأسيسه كانت متلازمة مع التدخلات الأجنبية وتحديدا تدخلات النظام العالمي الداعم للكيان الصهيوني والملتزم بأمنه وحمايته.. ٢ – هذه التدخلات الأجنبية كانت سببا رئيسيا في حماية سلطة المحاصصة الطائفية والمذهبية وما فيها من فساد وترهل وانحطاط؛ وفي حماية تسلطها على اللبنانيين وضعضعة صفوفهم الوطنية لمصلحة الاستتباع الطائفي والمذهبي بفعل قوة القوانين والنفوذ والسلطة والمصالح والضرورات المعيشية.. ٣ – لم يكن التدخل الأجنبي يوما يؤيد ويسهل قيام دولة قوية تحكم لبنان وتضبط أوضاعه.. ٤ – الدور العربي: تأرجح الدور العربي في لبنان تبعا للوضع العربي العام وتبدلات أحواله وفعالية نظامه العام. وقد مر بثلاثة أنواع من التعاطي مع لبنان والشؤون اللبنانية: – الأول: الدور الإيجابي وقد تمثل بأفضل تجلياته يوم أن كان لمصر وزنها المؤثر الفاعل في الوضع العربي العام. يوم أن كان لمصر مشروع نهضوي تحرري بامتداده العربي ورؤيته التوحيدية العروبية الجامعة.. يوم أن كان جمال عبد الناصر يقود مصر والشعب العربي في نهج تحرري توحيدي. في تلك الحقبة المشرقة المشرفة، رغم ما فيها من مخاطر وتحديات ومعارك شاملة كل المجالات، عاش لبنان أكثر استقرارا في تاريخه عقب ثورة ١٩٥٨ ضد النفوذ البريطاني وتدخلاته السافرة؛ إلى حين نهاية سنة ١٩٧٠.. فكانت حقبة استقرار وازدهار ونشاط في كل ميدان؛ وكان لبنان في أبهى صوره الجمالية، يومها أطلق عليه وصف سويسرا الشرق وصارت بيروت ست الدنيا وعاصمة العرب.. يومها سمحت الحماية العربية للبنان ببناء مؤسسات قوية تتمتع بقدر عال من الجودة والوطنية والموضوعية. فكان حكم اللواء فؤاد شهاب أبرز وأهم فترة استقرار داخلي شهدت مسيرة بناء مؤسسات الدولة على أسس سليمة وطنية عامة.. وحتى عندما حصل توتر أمني مع الفصائل الفلسطينية سنة ١٩٦٨؛ كانت مصر الناصرية حاضرة فورًا لمحاصرته ووضع حد له أعاد الاستقرار والهدوء بسرعة.
وفي مراحل لاحقة بعد بداية السبعينات من القرن العشرين كان الدور العربي الإيجابي لبعض العرب يتمثل في مساعدات إنسانية ومالية وإغاثية وتعليمية مهمة.
– الثاني: التعاطي السلبي وأكثر ما تمثل في فترة هيمنة الأجهزة الأمنية للنظام السوري بين ١٩٧٦ و ٢٠٠٥. وكانت تمارس نسبة عالية جدا من التدخل السلبي الذي أدى إلى نتائج سلبية تخريبية كثيرة على كل مستويات الحياة والشؤون اللبنانية. وكان في طليعتها تخريب وإفساد مؤسسات الدولة وفرض قوى ميليشيوية طائفية ومذهبية عليها.. وإطلاق عصبيات شعوبية تقسيمية مذهبية وطائفية على أنقاض الحركات والقوى الوطنية والمقاومة الوطنية ليربط اسم المقاومة بالعصبية المذهبية وهو ما كان مقتلا لها. فكان ذلك كله هو المدخل إلى ما نحن فيه من انهيار السلطة والخراب الوطني المفجع.
– الثالث وهو اللامبالاة العربية …وهي ما يعبر عنه الوضع العربي الراهن. فقد كثرت وتنوعت الأخطار على كل بلد عربي وصارت الهموم المحلية عالية المستوى شديدة الإلحاح فتراجع اهتمام الدول الكبيرة والقادرة بغيرها؛ وغابت فكرة المصير العربي الواحد عن الوعي الجماعي الرسمي وشلت جامعة الدول العربية. فكان أن استفردت بلبنان القوى الإقليمية الطامعة وأدواتها المحلية.
# خلاصة:
أمام الواقع اللبناني الراهن وغياب الدور العربي الإيجابي الفاعل حيال لبنان؛ وفي غياب أي دور وطني للسلطة اللبنانية الراهنة؛ يبقى لبنان متأرجحًا مصيره بين تجاذبات الأطراف الأساسية الثلاثة الأكثر تأثيرًا: الولايات المتحدة والعدو الصهيوني والمشروع الإيراني..
فإلى أي مدى يستطيع لبنان البقاء والحفاظ على استقراره؟؟
وهل تؤدي تداعيات الأحداث إلى تدويله ووضع اليد عليه، أم يدخل في نفق الصدامات وما فيها من احتمالات تدميرية أو مخاطر حرب داخلية مدمرة للوطن بجميع فئاته؟ وهل يصحو بعض العرب فيدرك أن مصير لبنان مؤثر حتمًا في كل المصير العربي دون استثناء؟؟
وأخيرًا هل يستطيع الشعب اللبناني أن يجبر السلطة على الرحيل ليقيم سلطة وطنية مقبولة تشكل له مستوى معقولاً من الأمن والأمان والاستقرار؟؟
505 5 دقائق