
في مشهد تاريخي يحمل بين طياته رمزية عميقة، تحتفل سوريا بذكرى مرور أربعة عشر عاماً على انطلاق ثورتها الشعبية التي غيّرت وجه التاريخ الحديث في البلاد، إذ تمر سوريا اليوم بذكرى استثنائية، إذ تكمل ثورتها الشعبية عامها الرابع عشر.
ومنذ تلك اللحظات الأولى التي ارتفعت فيها الهتافات المطالبة بالحرية في دمشق ودرعا، كان واضحاً أن السوريين يدخلون مرحلة تاريخية جديدة، لكن ما لم يكن متوقعاً هو أن هذه الرحلة ستكون مليئة بهذا الكم الهائل من التضحيات والتحديات.
يحتفل السوريون بمرور أربعة عشر عاماً على انطلاق الثورة السورية، تلك الشرارة التي بدأت عام 2011 بالقرب من سوق الحميدية في قلب دمشق، حيث تعالت أصوات السوريين بهتاف لن ينساه التاريخ: “الشعب السوري ما بينذل”، كانت تلك لحظة مفصلية، لحظة أعلن فيها الشعب السوري رفضه لعقود من القمع والفساد والاستبداد، مطالبين بالحرية والكرامة.
في البداية، كانت الثورة سلمية، تحمل مطالب محقة وأصواتاً صادقة، لكن النظام السوري، بقيادة بشار الأسد، أدرك أن هذه الأصوات تشكل تهديداً وجودياً له، فاختار مواجهتها بالحديد والنار، لتتحول الثورة السلمية إلى صراع مسلح، حيث شهدت البلاد مجازر مروعة في أرجائها المختلفة، من القصف العشوائي على الأحياء السكنية إلى الاعتقالات الجماعية والتعذيب في السجون، لكن رغم كل ذلك، لم تنكسر إرادة السوريين. لمدة أربعة عشر عاماً، ظلوا متمسكين بمبادئ ثورتهم، رافضين الاستسلام حتى الرمق الأخير، في مواجهة نظام دكتاتوري لم يكن وحده، بل مدعوماً بتحالفات إقليمية ودولية وميليشيات عابرة للحدود.
اليوم، نحن على أعتاب مرحلة جديدة، هذه الذكرى الرابعة عشرة ليست كسابقاتها، فهي الأولى التي نعيشها من دون عائلة الأسد ونظامها المجرم، لقد سقط الطاغية، وبدأ السوريون يتنفسون عبير الحرية بعد سنوات من الخناق، إنه إنجاز تاريخي، ليس لسوريا وحدها، بل لكل شعوب المنطقة التي شهدت ثورات الربيع العربي تتعثر وتصطدم بجدار الثورات المضادة، ففي حين أجهضت ثورات مصر وتونس وليبيا بتآمر داخلي وخارجي، بقيت الثورة السورية صامدة، تكتب بدماء أبنائها درساً للعالم: إرادة الشعوب لا تُقهر، مهما طال الزمن أو عظم التحدي.
نجاح الثورة السورية ليس مجرد حدث عابر، بل سابقة خطيرة تهدد عروش الأنظمة الدكتاتورية في العالم، لقد أثبت السوريون أن الشعوب القادرة على الصمود في وجه أعتى الآلات القمعية قادرة أيضاً على الانتصار، هذا الانتصار لم يكن سهلاً، فقد دفع السوريون ثمناً باهظاً: ملايين المهجرين، مدن تحولت إلى أنقاض، وأرواح أزهقت تحت وطأة القصف والجوع والاعتقال. لكنه ثمن كان ضرورياً لاستعادة الكرامة وبناء مستقبل يليق بتضحياتهم.
نجاح الثورة السورية يبعث برسالة قوية إلى العالم: التغيير ممكن، والشعوب قادرة على صنع مستقبل أفضل إذا توافرت لها العزيمة والإرادة. لكن هذا النجاح لن يكون كاملاً إلا إذا استثمر السوريون هذه اللحظة التاريخية بحكمة، وعملوا معاً من أجل بناء وطن يليق بتضحياتهم.
نجاح الثورة السورية ليس مجرد حدث عابر، بل سابقة خطيرة تهدد عروش الأنظمة الدكتاتورية في العالم، لقد أثبت السوريون أن الشعوب القادرة على الصمود في وجه أعتى الآلات القمعية قادرة أيضاً على الانتصار، هذا الانتصار لم يكن سهلاً، فقد دفع السوريون ثمناً باهظاً
في ديسمبر/كانون الأول 2024، تحقق ما بدا للبعض مستحيلاًـ في غضون أيام معدودة، تقدمت فصائل المعارضة وسقطت دمشق عاصمة الأمويين التي طالما كانت رمزاً لسلطة الأسد، وفرّ بشار الأسد إلى وجهة مجهولة تاركاً وراءه نظاماً تفكك كبيت من ورق بعد أن ظن أنه سيظل صامداً بدعم روسيا وإيران، وكان ذلك الانتصار تتويجاً لرحلة طويلة من المقاومة، لكنه لم يأتِ بسهولة، فوراء كل خطوة تقدمتها المعارضة، كانت هناك أرواح أزهقت ودماء أريقت.
احتفل السوريون في الساحات العامة، من إدلب إلى حلب، ومن حمص إلى دمشق. رفعوا علم الاستقلال، الذي تبنوه منذ 2011 كرمز لثورتهم، وغنوا أناشيد الحرية التي كانوا يهمسون بها سراً تحت حكم الأسد. لم يكن الاحتفال مجرد فرح عابر، بل تعبير عن إرادة صلبة تحدت كل الصعاب. لكن وسط هذا الفرح، كان هناك وعي بأن الطريق لا يزال طويلاً. إسقاط الأسد لم يكن النهاية، بل بداية مرحلة جديدة مليئة بالتحديات.
ومع سقوط الأسد، تتجدد الأسئلة حول ما ينتظر سوريا، فهناك من يرى في هذه اللحظة فرصة ذهبية لإعادة بناء البلاد على أسس ديمقراطية، دولة مدنية تعددية تحترم الحقوق والحريات وتضمن العدالة للجميع، هؤلاء يحلمون بمستقبل خالٍ من التهميش والقمع، حيث يتم محاسبة المجرمين عبر آليات العدالة الانتقالية، ليس من أجل الانتقام، بل من أجل المصالحة والشفاء الوطني.
وفي المقابل، هناك أصوات قليلة تتخوف من المستقبل، تخشى الفوضى أو الانقسامات الداخلية، بل إن بعضها قد يميل إلى الارتباط بقوى خارجية كإيران أو إسرائيل، وهي أصوات تُستغل غالباً لأغراض استعمارية تهدف إلى إدامة الضعف السوري.
لكن الغالبية العظمى من السوريين تدرك أن الطريق أمامهم لن يكون مفروشاً بالورود، إنهم يرون في “سوريا بدون الأسد” بداية مرحلة انتقالية صعبة ولكنها حتمية، تحتاج إلى توافق سياسي واسع ومصالحة وطنية شاملة.
اليوم، وبعد 14 عاماً من انطلاق الثورة، يواجه السوريون مهمة أصعب من إسقاط الطاغية: بناء دولة، سوريا التي خرجت من تحت أنقاض الحرب ليست مجرد بلد مدمر مادياً، بل مجتمع مزقته الانقسامات والصراعات، فهناك فصائل مسلحة تحتاج إلى توحيد صفوفها، وتنوع طائفي وعرقي يتطلب إدارة حكيمة لضمان التعايش، وهناك أيضاً ملايين اللاجئين والنازحين الذين ينتظرون العودة إلى ديارهم، ومؤسسات دولة تحتاج إلى إعادة بناء من الصفر.
إعادة الإعمار ليست مجرد ترميم للبنية التحتية، بل إعادة بناء النسيج الاجتماعي الذي مزقته سنوات الحرب. العدالة الانتقالية تظل المفتاح هنا، فهي السبيل لتحقيق الاستقرار من دون الانزلاق إلى دوامة الثأر أو الفوضى.
بالنسبة للسوريين في المهجر، وهم ملايين تناثروا في أصقاع الأرض، فإن هذه اللحظة تحمل معها أملاً طال انتظاره: العودة إلى الوطن. لكن هذه العودة ليست مجرد قرار عاطفي، بل مشروطة بضمانات أمنية وسياسية واقتصادية، ولا أحد يريد العودة ليعيش في خوف أو فقر أو تحت تهديد الانتقام، والسوريون في الشتات يحلمون بوطن يستقبلهم بالأحضان، وطن يعيد لهم كرامتهم التي سلبتها سنوات الغربة.
في هذه الذكرى الأولى من دون الأسد، تمتزج مشاعر السوريين بين الفرح والتوجس، الفرح بانتصار ثورتهم التي بدت مستحيلة يوماً ما، والتوجس من التحديات التي تنتظرهم، هذا التوجس طبيعي، فبعد ستين عاماً من حكم عائلة الأسد ونظامها، وبعد حرب طاحنة استمرت أكثر من عقد، من المنطقي أن يحتاط السوريون وهم يخطون خطواتهم الأولى نحو المستقبل، لكن ما يجمع هذه المشاعر المتباينة هو إصرارٌ واحد: تحقيق الحلم الذي بدأ في 2011.
سوريا اليوم تقف على مفترق طرق، إنها أمام فرصة تاريخية لتكون نموذجاً يُحتذى به، ليس فقط للشعوب المقهورة في المنطقة، بل للعالم أجمع، فنجاح الثورة السورية هو رسالة واضحة: التغيير ممكن، ورياح الحرية قادمة لا محالة لتقتلع جذور الاستبداد أينما كانت، لكن هذا النجاح لن يكتمل إلا بالعمل الجاد والتكاتف والمحبة والعدالة، والسوريون، بكل توجهاتهم، مدعوون اليوم للاجتهاد في خدمة بلدهم، لأن الأحلام لا تتحقق بالتمني، بل بالعزيمة والعمل.
في هذه المرحلة الحرجة، تبرز عدة أسئلة حول مستقبل سوريا. هل ستتمكن البلاد من تجاوز الانقسامات الداخلية والتدخلات الخارجية التي طالما استغلت ضعفها؟ وهل ستتمكن القوى السياسية الجديدة من تقديم رؤية وطنية جامعة تتجاوز الخلافات وتضع مصلحة البلاد فوق كل اعتبار؟ الإجابات عن هذه الأسئلة تعتمد بشكل كبير على قدرة السوريين على التوافق والعمل المشترك.
في النهاية، تبقى الثورة السورية شاهداً حياً على أن الشعوب التي ترفض الذل قادرة على صنع المستحيل، وبعد أربعة عشر عاماً من الصمود، وبعد أول ذكرى من دون الأسد، يحق للسوريين أن يرفعوا رؤوسهم فخراً، وأن يتطلعوا إلى غدٍ يليق بتضحياتهم. الحلم لم يعد بعيداً، بل بات في متناول اليد، والسوريون مصممون على تحقيقه مهما كلفهم الأمر.
الذكرى الرابعة عشرة للثورة السورية ليست نهاية القصة، بل بداية فصل جديد، سوريا اليوم تتنفس الحرية لأول مرة منذ عقود، لكنها بحاجة إلى أبنائها ليحولوا هذه الحرية إلى واقع دائم، إنها لحظة تاريخية تحمل في طياتها وعداً بمستقبل أفضل، شريطة أن يظل السوريون متمسكين بإرادتهم ووحدتهم.
بعد 14 عاماً من الألم والصمود، يحق لهم أن يحتفلوا، لكن يحق لهم أيضاً أن يحلموا بما هو أكبر: سوريا العادلة، الحرة، التي تستحق كل قطرة دم أريقت من أجلها.
المصدر: تلفزيون سوريا