التجربة السورية المثقلة بخيبات أخواتها

المهدي مبروك

 

مع أحداث الساحل السوري، أخيراً، نتأكّد، أكثر من أيّ وقت مضى، أننا في تونس لا نحتاج إلى كثير عناء لنقرأ تفاصيل المشهد السوري، والاطلاع على دقائق وقائعه وأحداثه، وتوقّع بعض المآلات الممكنة. لا يُعدّ هذا ادّعاءً أو امتلاكاً للغيب، ولكن نستحضر في هذا كلّه بعضاً ممّا قاله ابن خلدون، الذي عاش في بلدان المغرب العربي، وتمكّن، في آخر عمره، من زيارة الشام، والتوسّط بين وجهائها والطاغية تيمورلنك، في مساعٍ لا تزال غامضةً. فالتاريخ في باطنه عبرة على نحو أن ما يجري فيه يخضع أحياناً لبعض القوانين، ولنا ما يفيد أن الماضي باعتباره خزّان “التاريخ” يمكن أن يمنحنا بعض مفاتيح قراءة الحاضر. سنكون آنذاك أمام ضرورة المقارنة بين الماضي والحاضر، بين تجارب متقاربة إلى حدّ الشبه الكبير، لنستنتج مفاتيح قراءة التاريخ كلّه.

كانت الثورة السورية آخر الثورات التي التحقت بالموجه الأولى من “الربيع العربي”، الذي سرعان ما غدا خريفاً أو شتاءً بلا غيث

حين اندلعت الثورة السورية، كانت آخر الثورات التي التحقت بالموجه الأولى من “الربيع العربي”، الذي سرعان ما غدا خريفاً أو شتاءً بلا غيث. انتكست كلّ التجارب من تونس إلى اليمن، مروراً بليبيا ومصر… إلخ، وكانت المآلات أحياناً كريهةً ومرعبةً: حرب أهلية واقتتال وصعود لموجات الإرهاب وسلسلة من الانقلابات التي صعد معها العسكر إلى الحكم. لم تبقَ شمعة عربية واحدة ملهمة، انطفأت بفعل رياح سموم عديدة هبّت عاتيةً. ثمّة ما يشبه المنوال، أو “باراديم”، بلغة توماس كوهين، مؤرّخ العلم الأميركي المرموق، صحاب كتاب “بنية الثورات العلمية”. لا يمنعنا هذا الباراديم من مجرّد قراءة التجارب العربية بنظّارات التجارب العربية السابقة، بل يمنحنا بعضاً من القدرة على التوقّع، تماماً كما يحدث في العلوم الصحيحة، فليس المستقبل سحراً أو غيباً، بل هو ظاهرة يمكن توقّعها، فضلاً عن مئات الظواهر الأخرى التي لا يكون وقوعها خارج ما نتوقّع، بشرط أن تكون لها المعارف والمناهج والأدوات الجديرة والكفوءة.
تخضع الثورة السورية حتى الآن لمسار رسمت خطواته الثورات العربية الأخرى: سقوط النظام وانتصار الثوار. تليها مرحلة انتقالية قد تقصر أو تدوم، تتخلّلها أنواع مختلفة من النزاعات والخلافات الداخلية التي تُلقي من فوّهة براكينها حمماً من الكراهية والأحقاد والرغبة الدفينة في هدم المعبد، حتى ولو أباد من فيه جميعاً، ثمّ اقتحام عتبة الخيبة الكبرى. ثمّة مسارات يُعاد إنتاجها في كلّ التجارب العربية، قبل أن تصل إلى النهاية المحتومة، أوهام الانتصار النهائي وحالة النشوة القصوى التي تحلّق بالثائرين في ملكوت السماء. قال أحد شعراء تونس (وقد تحوّل فيما بعد شاعراً خصماً لمن حكموا): “لقد وهبتنا الثورة سماءً من الحرية”. تمتزج الثورة بسقف عالٍ، حدّ الجنون والتخمّر، من الطموحات والأوهام والحرّية والفوضى، وتتهتك جميع الحدود حدّ العقلانية والعبث. في تلك الجنّة يتسلّل الخصوم والأعداء لصناعة الحنين إلى العهد الذي ثار عليه الناس، ويتم اصطياد الخيبات والعثرات لصناعة “عهد ذهبي نتحسّر عليه ونبكي انقضاءه”. حين أطالع ما يكتب حالياً حول الأحداث التي شهدها الساحل السوري، تقفز إلى ذهني كثير من العبارات التي حفظْتها عن ظهر قلب، وهي التي قالها التونسيون أيضاً حين مرّت ثوراتهم ببعض عثرات، لا تختلف كثيراً عمّا تشهد سورية حالياً، الفاعلون والأسباب فقط يختلفون نسبياً، خصوصاً أن تونس لم تشهد عنفاً طائفياً، لكن شهدت ما يضاهيه عنفاً سياسياً وأيديولوجياً أهوجَ وقاتلاً.
هذا المنوال لا يشتغل في حفر خنادق في مسار الثورة، وقد تحوّلت دولةً، بل يشتغل أيضاً، وبكثير من المردودية، في أثناء بناء الدولة ذاتها في ما توافر من وقت يطول أو يقصر، بحسب خصوصية التجربة وطبيعة فاعليها، تبدو القوى المنتصرة عادةً، ووفق ذلك المنوال، مصرّة على مسك الأجهزة المتهالكة من حطام الدولة، مؤسّسات صلبة وإدارة وأجهزة، لا تعرف تماماً كيف “تصفّي” تلك التركة الثقيلة، ولكنّها مضطرة بين الحين والأخر إلى التنازل وغضّ الطرف بحثاً عن “المؤلّفة قلوبهم” من أجل الحصول على الحدّ الأدنى من “أداء الدولة”، حتى ولو على حساب الثورة ومهجتها لإشباع الحاجات الملحّة للناس، فليس لها بدائل كبرى لصياغة أجهزة جديدة وخلق شعب جديد، منه تنتقي المنتسبين إلى تلك الجيوش، بما فيها الجيش المدني لمئات آلاف منتسبي الإدارة العمومية. يتسلّل في ذلك كلّه خصوم الثورة وانتهازييها، و'”ثوار الربع الأخير من الساعة”، وحتى الذين كانوا من رموز النظام السابق، ويتم ذلك تحت مبررات عديدة: الحاجة الملحّة للمرافقة، والخبرة والتجربة… إلخ، فتتحوّل أجهزة الدولة غنيمةً أو “جيشّ ردّةٍ يحمل في الداخل ضدّه”، كما يقول الشاعر مظفّر النُوّاب.

تمرّ التجارب الانتقالية بعد الثورات باختبارات عسيرة، وكلّما طال أمد التجربة كانت عرضة للانتكاس

خارج أجهزة الدولة، التي تحمل عادةً عناصرَ خرابها في ذاتها، يبدأ الثوار في بناء سلطات مؤقّتة طمعاً في بناء بعض المشروعية: دستور مؤقّت سمّي في تونس “الدستور الصغير” أي “تنظم مؤقّت للسلطة”، وها إن أشقاءنا في سورية سمّوه الإعلان الدستوري، ولا يختلف الأمر في مصر وليبيا بقطع النظر عن مآلات الدستور القديم، ويبدأ تشكل هيئة تشريعية تسمّيها بعض التجارب مجالس تأسيسية أو مجاس نيابية مؤقتة. لا شكّ أن هذه البناءات كلها تظلّ هشّة قابلة للتفكّك السريع، يبدأ آنذاك الخصوم (وما أكثرهم) في سحب الشرعية من هذه البناءات الهشّة والوليدة كلّها، من أجل العودة إلى “العهد الذهبي”، أو الارتماء في مسار آخر هو مزيج من الفوضى والحرب الأهلية، خصوصاً في ظلّ اختبارات عسيرة: العدالة الانتقالية، وبركان الذاكرة وآلامها.
تمرّ التجارب الانتقالية كلّها باختبارات عسيرة، وكلّما طال أمدها، كانت عرضة للانتكاس، خصوصاً في ظلّ تحرّش إقليمي ودولي بكلّ ما له صلة بالثورات العربية ورغبات التحرّر. كلما لانت الثورات واقتربت من المؤلّفة قلوبهم، ابتعدت من مهجتها وأصابها المسخ، وكلّما مالت إلى مهجتها وروحها، تكالب عليها الجميع، وتلك هي المعضلة التي لا نرى لها حلّاً سهلاً. ولا يحتاج السوريون إلى الاطلاع على دروسنا الخائبة والاتعاظ من تجاربنا الفاشلة، فلهم من الإرادة والذكاء والنخب ما بها يختارون أقوم المسالك، ولكن قد يحتاجون إلى النظر في مرآة قطار ثورتهم العاكسة، حتى يتجنّبوا المحطّات الفاشلة، وإنهم على ذلك لقادرون.

المصدر: العربي الجديد

زر الذهاب إلى الأعلى