
كان حريصاً على أن يختلي بي؛ لكي يخبرني بأنَّ على الواحد أنْ يعيش، ويراقب ما شاء، شرْطَ أنْ يحرص على بقاء مسافة بينه وبين الواقع، مسافة يأمن معها ألا ينكسرَ قلبُه”… هذه وصية الشاعر عبد الوهاب البياتي للكاتب إبراهيم أصلان، أوردها الأخير في كتابه “خلوة الغلبان” في التعاطي مع الوقائع المؤلمة التي تقع في الشأن العام، ثم يردف: “وأنا لا أنسى هذه الوصية؛ لأنها شأن الوصايا التي لا تُنسَى، قيلت في وقتها تماماً، لم يقلِّل من قيمتها أنَّ القلب انكسر فعلاً”.
نستذكر هذه الوصية، في هذه المرحلة الاستثنائية، فعلاً، فائقة الخضَّات، إذا ما قورنت بالفترة التي عاشها كلٌّ من البياتي وأصلان، وجيلهما، ما يعني أن من الصعب، جدّاً، أن نبعد أنفسنا، وذواتنا، عن هذا الشأن العام، لأننا، ومصائرنا، ومعاشنا، نقع في صميمه، فلم تعُد تلك النكسات والتراجُعات تصل إلينا على شكل تداعياتٍ مخيِّبةٍ للآمال، أو على شكل ظلالٍ تخيِّم على أحلامنا الكبرى وآمالنا الطَّموحة، بل وصلت نتائج حالة السيولة هذه، وافتقاد المركز، إلى بيوتنا، وإلى أعزِّائنا، وصارت تقضُّ مضاجعنا، فعلاً، وتنهب قُوت كثيرين منَّا، فأصبح التنائي عن متابعة المستجدِّات المتلاحقة، لا يستطيعه إلا متبلِّد الحسّ، أو منعزل، إن استطاع أن ينعزل.
ولعل البؤرتين الأكثر سخونةً وخطورةً هما غزّة، في فلسطين، وسورية، مع محيط عربي لا يوصَف، في مجمله، بالاستقرار.
وابتداءً، لا بدَّ من التسليم بأن هذه المرحلة مُتعبة، وهذا التعب مستحقّ، حتى تتشكَّل هذه الوقائع التائهة، ولا ندري، هل يطول الزمن، أم يقصر؟ … ولكن على أقل تقدير، وحتى نؤدِّي دورنا، ونتحمَّل مسؤوليتنا، ونبرئ ذمَّتنا، يلزم أن نتأكَّد من وقوفنا على الجانب السليم من التاريخ، وأن لا نفقد السيطرة، في تيَّار متدافع، لا نعرف من يحرِّكه، وما أهدافه منه؟ هذا، ولعلَّ مِن أوجب مُوجبات التعب، فقدان الرؤية، أو الحَيْرة، حين لا نعرف كيف نشعر؟ وقبْلَه، كيف نحكم؟
الوضع في سورية، هو في صُلْبه ناجمٌ عن مظالم مزمنة، زرعها، وروَّاها النظامُ الوحشيُّ البائد
ومع أن الصراع في فلسطين أقلّ التباساً، إذ هو في الأصل بين شعبٍ محتل، له الحق في المقاومة، ودولة تحتلّ أرضه، وتصادر مصيره، إلا أن مآلات “طوفان الأقصى”، وهي الأكثر فظاعة في قطاع غزّة، حيث الخسائر غير المسبوقة في الأرواح، والدمار الواسع، والمجاعة المُوشكة، ثم التهديدات المقلقة، عن مصير القطاع وأهله، تلك المآلات، تثير التساؤلات وتغذِّي الاختلافات.
ولا نبالغ، إن قلنا إن هذه الحالة الداخلية التي تتخلَّلها الاختلافات، تُقارب في أثرها، ما أوقعه العدوُّ الخارجي، لأنها قد تطيل أمد المأساة. وفي المقابل، التعاضد الداخلي والتوحُّد الشعوري والاجتماعي، (وهذا ما نقدر عليه، أو يفترَض) يعوّضان بعضَ الفقد، وتسدُّ غير قليل من الخلل، إذ هي تعترض الفتن الداخلية، وتهدِّئ اضطرابات النفوس. هذا إلى حين تنفرج الأزمة، وتذلِّل العقبات أمام مرحلة التعافي، وإعادة الإعمار. حاصلُه أن الخلافات السياسية لا يصحُّ أنْ تعترض حاجات الناس الملحَّة، أو أن تساوم بها، أو عليها.
وفي سورية، مع أن الوضع مختلف كثيراً، إذ هو في صُلْبه ناجمٌ عن مظالم مزمنة، زرعها، وروَّاها النظامُ الوحشيُّ البائد، وأيضاً عن حالة التوجُّس، وضعف الثقة، وخصوصاً لدى المكوِّنات السورية التي لا تمثل أكثرية عددية، إلا أن بقاء مشترَكات، ولو على صعيد الخطاب، عن حرمة المساس بالدماء البريئة، وعن الحقِّ الثابت في صيانة الأعراض والممتلكات، والكرامات، هذه المسلَّمات، يمكن، ويجب البناء عليها، والاستمرار اليومي، في صيانتها، وفي استبقائها. ذلك أن هذه العملية الانتقالية التي تمرُّ بها سورية لا يمكن أن تتم بإجماع، فهي مقارَبة، وهي تعالج مسائل ترتدُّ إلى اختلافاتٍ عميقة، تعود إلى المرجعيات الفكرية، والدينية، كما حصل أخيراً، في الإعلان الدستوري. ولا تزال هذه المسائل في طوْر التشكُّل، وليست نهائية، ما دام هناك حالة تفاعل اجتماعي، وسياسي، إذ مع أهمية التواضُعات الدستورية، في الترتيب لما بعدها، إلا أنَّ الموجِّه الفعلي، والوجهة الأدائية، يتأثَّر فيها الرئيسُ وطاقمُ الحُكْم بالقوى السياسية والاجتماعية، وقوَّة الرأي العام، وبيقظة الوعي العام.
تستجيب سورية والسوريون لاستحقاقات طويلة ومتكاثرة، داخلية وخارجية، وهي تعمل على ترميم نفسها
وحتى لو بقيت مسائل، وقد تكون مهمّة، ومفصلية، محلَّ خلاف، فإن الآليات المناسبة للتعاطي معها سلمية، تقع في دائرة العمل السياسي، ووسائله الضاغطة، وأوراقه، الاحتجاجية المشروعة. لكن تلك المناطق التي تقلق الجميع، مثقفين وغير مثقفين، سياسيين، ومواطنين عاديين، هي التي تطاول مجرى الحياة نفسها؛ أمن الناس، ومعاشهم، وحقوقهم غير القابلة للجدال. ولا يصحّ أن تقلّل من شأن هذه المناطق أيُّ وقائع أخرى، أو تهمّشها أيُّ اشتغالات، ولو كانت مهمّة، في ذاتها. هذه الدوائر الأساسية، هي قاعدة البناء، وهي محتاجة إلى رعاية يومية، وخصوصاً، في هذه المرحلة المحتقنة، وفي هذه التجاذُبات، ومخاطر التدخُّلات الأجنبية المتربِّصة والطامعة، أو الموتورة، ينبغي، في الأوَّل، عدم السماح بنشوء فراغات تتسلَّل إليها تلك القوى، كما تحاول إسرائيل التي تحتلُّ أجزاء من أراضي سورية، بعد احتلالها هضبة الجولان، وفرْض سيادتها عليها، فيما تتذرَّع، من ضمن ما تتذرَّع، بحماية أقليات! تحاول كما فعلت في تنظيم زيارة تضمُّ نحو مائةِ رجل دين يمثلون الطائفة الدرزية، من محافظتَي القنيطرة وريف دمشق، إلى الأراضي المحتلة، أنْ تصادِر آراء بقية أبناء الطائفة الدرزية في سورية، وأنْ تفرِض مشروعها التوسُّعي، ونموذجها الاحتلالي، المفضوح، مستغلةً حالةَ التشكُّل، والحالة الانتقالية، هذه خطوة بالغة الخطورة، جاءت بعد تصريحات علنية لوزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، مطلع شهر مارس/ آذار الحالي، هدّد فيها بالردّ، إذا “مُسَّ الدروز في سورية”، معلناً بدء “دمج الدروز السوريين في سوق العمل بالمستوطنات”.
وفي المجمل، تستجيب سورية والسوريون لاستحقاقات طويلة ومتكاثرة، داخلية وخارجية، وهي تعمل على ترميم نفسها، وتأليف أجزائها ومكوِّناتها، أيُّ هدفٍ يتحقَّق في هذا السياق هو إنجاز، يمكن البناء عليه، فهي في صيرورة مستمرة، وليست ناجزة، وبناء الدول والبلاد، لا يتمُّ في مزاج الحساسية المبالَغ فيها، لجهة الإحباط عندَ أيِّ تعثُّر، أو سوء أداء، إنما بطول النَّفَس، والمعاوَدة، بعد المعاوَدة، مع الحفاظ على خطٍّ عريض، أو خطوط، بنائية، وترسيخ طريقة سليمة وآمنة، في التعامُل مع حقوق الناس وحرماتهم، بغضّ النظر عن أديانهم، أو طوائفهم، أو أعراقهم.
المصدر: العربي الجديد