الهويات الجزئية في سورية وإشكالية بناء الدولة الجديدة

حمدان العكله

تُعدّ سوريا مثالاً على التنوع الاجتماعي، حيث تتداخل فيها الهويات الدينية والإثنية والعشائرية والمناطقية ضمن نسيج معقد يعكس تاريخاً طويلاً من التفاعل الثقافي والاجتماعي، هذا التعدد لم يكن مجرد سمة شكلية، بل كان يمكن أن يكون مصدر قوة يثري البنية الوطنية، عبر إرساء دعائم مجتمع متماسك يقوم على التعددية والتكامل، غير أن هذا التنوع لم يُستثمر في بناء دولة مدنية عادلة، بل جرى توظيفه من قبل النظام السوري السابق كأداة للهيمنة السياسية وضمان استمرارية الحكم.

فقد انتهج النظام سياسات تمييزية عززت الانقسامات بين المكونات الاجتماعية، حيث عمد إلى تهميش بعض الفئات وإعطاء امتيازات لأخرى، ليس بدافع تحقيق التوازن أو ترسيخ الوحدة الوطنية، بل لضمان إحكام قبضته على السلطة، ونتيجة لذلك، تحول التنوع الهوياتي من عنصر إثراء إلى عامل استقطاب، أسهم في تأجيج الصراعات الداخلية وإضعاف النسيج المجتمعي.

عمد النظام إلى طمس الانتماءات الفرعية وإضعافها، مُدّعياً أن تحقيق التماسك المجتمعي يستلزم إذابة التنوع في هوية وطنية موحدة.

أولاً- تهميش الهويات الجزئية واستغلالها من قبل النظام:

منذ استيلائه على السلطة في سبعينيات القرن الماضي، انتهج نظام الأسد سياسة مزدوجة تجاه الهويات الجزئية، تقوم على تهميشها حين تشكل تهديداً لسلطته، واستغلالها حين تخدم مصالحه، تحت ذريعة “الوحدة الوطنية”، كما عمد النظام إلى طمس الانتماءات الفرعية وإضعافها، مُدّعياً أن تحقيق التماسك المجتمعي يستلزم إذابة التنوع في هوية وطنية موحدة، غير أن هذه الوحدة المزعومة لم تكن سوى أداة لضمان إحكام قبضته على الدولة، حيث حُرمت بعض الفئات من حقوقها الثقافية والاجتماعية، وأُجبرت على الاندماج قسراً ضمن الإطار الأيديولوجي للنظام، في المقابل، وظّف النظام هذه الهويات لتكون سلاحاً لإدامة سلطته، مستغلاً الانقسامات الاجتماعية عبر سياسة “فرِّق تسد”، فعمل على منح امتيازات انتقائية لبعض الأقليات لضمان ولائها، بينما صوّر جماعات أخرى بوصفها مصدر تهديد أمني، مما برر قمعها، وإقصاءها عن الفعل السياسي، كما استخدم النظام بعض الهويات كأدوات داخل أجهزته القمعية، بينما أبقى مكونات أخرى خارج أي تمثيل حقيقي في مؤسسات الدولة، مما عمّق الانقسامات وأسهم في تفتيت النسيج الاجتماعي لصالح بقائه في الحكم.

ثانياً- الثورة السورية وإعادة تشكيل الهوية الوطنية:

مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، شهدت الهويات الجزئية تحوّلاً جذرياً، حيث وجدت الجماعات المختلفة فرصة لاستعادة هويتها والتعبير عن ذاتها بعد عقود من التهميش والقمع، ومع انهيار الدولة المركزية في العديد من المناطق، برزت هذه الهويات ليس فقط كعناصر اجتماعية، بل بوصفهم فاعلين رئيسيين في المشهدين السياسي والعسكري، من خلال تشكيل التكتلات المسلحة أو تأسيس المجالس المحلية التي حاولت إدارة شؤونها بعيداً عن سيطرة النظام، لكن هذا التحول لم يكن مجرد استعادة طبيعية للتنوع السوري، بل جاء في سياق فراغ سياسي وأمني أتاح تصاعد النزعات الطائفية والإثنية، مدفوعاً بإرث طويل من التمييز والاستغلال، ما أدى إلى تفاقم الانقسامات وتعقيد المشهد الوطني.

وفي ظل هذه التشظيات، وجدت بعض الجماعات نفسها مدفوعة نحو السعي للاستقلال الذاتي، بينما فضّلت أخرى البحث عن تحالفات تضمن لها الأمن والحماية، مما أفرز قوى سياسية وعسكرية متباينة الأهداف، وجعل من الصعب تحقيق توافق وطني مشترك، ومع استمرار النزاع، تراكمت الشكوك وانعدمت الثقة بين المكونات المختلفة، لا سيما أن بعضها حمل مظالم تاريخية تجاه الآخرين، وهو ما عمّق الانقسامات بدلاً من ردمها، كما أن التدخلات الإقليمية والدولية عززت هذه التفرقة، حيث استغلت بعض القوى الخارجية الانقسامات المجتمعية لتأمين نفوذها وتحقيق مكاسبها السياسية.

إن نجاح الثورة السورية لن يُقاس بإسقاط النظام فحسب، بل بقدرة السوريين على تجاوز إشكالية الهويات الجزئية وإعادة بناء دولتهم على أسس عادلة ومتينة.

ثالثاً- نحو مستقبل جديد: آفاق التعايش وبناء الدولة:

يمثل بناء الدولة السورية الجديدة بعد سقوط النظام الأسدي وانتصار الثورة السورية تحدياً هائلاً، لكنه أيضاً فرصة تاريخية لإرساء نموذج وطني قائم على العدالة والمواطنة المتساوية، بحيث يتم تجاوز الإرث الثقيل من الانقسامات والتهميش الذي طبع العقود الماضية، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال مشروع سياسي واجتماعي شامل، يعيد صياغة العلاقة بين الدولة ومواطنيها على أسس جديدة تعترف بالتعددية كعنصر ثراء، وليس كعامل انقسام، ويتطلب هذا المشروع معالجة جذرية للمؤسسات والقوانين والسياسات التي شكلت أدوات الاستبداد، وإرساء دعائم نظام ديمقراطي يحتضن جميع مكونات المجتمع دون إقصاء أو تمييز، ولتحقيق هذا الهدف، لا بد من العمل على عدة محاور رئيسة:

المحور الأول، يتمثل بإصلاح المنظومة القانونية والدستورية، وذلك عبر صياغة دستور جديد يضمن حقوق جميع المواطنين دون أي تمييز على أساس الدين أو العرق أو الانتماء المناطقي، وبعيداً عن نهج المحاصصة الطائفية أو العرقية.

المحور الثاني، هو إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والعسكرية، حيث كانت هذه المؤسسات تاريخياً أدوات بيد النظام لقمع فئات بعينها، مما أدى إلى تعميق الانقسامات المجتمعية. لذا، لا بد من إعادة بنائها على أسس مهنية، بحيث تعكس التنوع السوري دون أن تتحول إلى أدوات لصالح جماعة دون أخرى.

المحور الثالث، يكون بتبني سياسات تعليمية وثقافية تعزز المواطنة، حيث يشكل التعليم إحدى الأدوات الأساسية في ترسيخ الانقسامات، سواء من خلال تغييب بعض الروايات التاريخية، أو عبر فرض هوية ثقافية واحدة على حساب باقي الهويات، لذا، من الضروري تبني نظام تعليمي جديد يعزز مفهوم المواطنة الجامعة، ويشجع على فهم التعددية بوصفها مصدر قوة وثراء، وليس عامل تهديد.

المحور الرابع، يكون بإطلاق مشاريع المصالحة الوطنية وترميم النسيج الاجتماعي، فمن المعلوم أنه لا يمكن بناء دولة مستقرة دون معالجة الجراح التي خلفتها عقود من القمع والتفرقة، لذا، من الضروري إطلاق برامج للمصالحة الوطنية، تركز على إعادة بناء الثقة بين المجتمعات المحلية، والعمل على تجاوز رواسب الماضي عبر العدالة الانتقالية.

في الختام، إن نجاح الثورة السورية لن يُقاس بإسقاط النظام فحسب، بل بقدرة السوريين على تجاوز إشكالية الهويات الجزئية وإعادة بناء دولتهم على أسس عادلة ومتينة، فالتجربة التاريخية أثبتت أن التعددية، إذا لم يتم احتواؤها ضمن إطار وطني جامع، يمكن أن تتحول إلى مصدر انقسام واستقطاب، وإن مستقبل سوريا لن يتحدد فقط في ميداني السياسة والعسكر، بل في قدرة أبنائها على إعادة اكتشاف هويتهم الوطنية، لا بوصفها أداة صراع، بل بوصفها ركيزة لبناء دولة حديثة تتسع للجميع.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى