
استنشق الشعب السوري أكسجين الحرية، وهو يرى -ولا يكاد يصدق- كيف تتهاوى قلاع الاستبداد أمام عينيه، قلاعٌ ظنّ كثيرون أنها عصية على السقوط، وأن الاقتراب منها أشبه بمحاولة انتزاع الشمس من مدارها.
نظام أمني جثم على صدر البلاد عقودًا، محكمًا قبضته الحديدية، مغذيًا جذوره بمزيج من الرعب والقهر، ومدعومًا بميليشيات دموية تسلّحت بأبشع الأساليب الوحشية، تلبّست بعباءة الطائفية والمذهبية.. فلم يكن يخطر على بال أحد، حتى أشد المتشائمين، أن يرى مشهد هروبه مذلولًا مهانًا، وكأنَّ عجلةَ القدرِ قررتْ سحقَ وَهْمَ الخلودِ الذي راوده طويلًا.
لقد ظنّ الأسد المخلوع أنه وريث التاريخ، وحليف الأزمنة المتعاقبة، وامتدادٌ لعهودٍ استبدّت بسوريا لعقودٍ طويلة، لكن التاريخ، الذي يُهادن الطغاة أحيانًا، كان له هذه المرة رأيٌ آخر.
غير أن التاريخ ذاته.. لا يمنح الانتصارات بالمجان، ولا يُبقي على نشوة النصر للأبد.. فالمشاعر العارمة بالامتنان للفصائل الثورية التي أسهمت في إسقاط الطاغية.. بدأت تتلاشى شيئًا فشيئًا، مع انكشاف عيوبها وصراعاتها الداخلية.
إذ تغاضى جمهور الثورة عن التجاوزات، وأغفل الممارسات التي لا تمتّ إلى جوهر النضال بصلة، إيمانًا منه بأن القادم سيحمل مشروعًا وطنيًا قادرًا على انتشال البلاد من رمادها.. لكن، وكما هي عادة التاريخ، فقد كانت الحقيقة أكثر تعقيدًا، إذ اصطدمت أحلام التحرر بجدران الواقع الصلبة: قلة الخبرة، ضعف الكفاءة، وسوء تقدير لحجم المسؤولية الجسيمة التي خلّفها النظام البائد من خرابٍ ودمار، إرثٌ ثقيل تعجز عن حمله حتى أكثر الدول استقرارًا، فكيف ببلدٍ ينوء تحت وطأة الانقسامات الاجتماعية، وانعدام الأمن والاستقرار، وحصارٍ خانق بالعقوبات التي أحكمت قبضتها على الشعب والدولة؟
إذ تغاضى جمهور الثورة عن التجاوزات، وأغفل الممارسات التي لا تمتّ إلى جوهر النضال بصلة، إيمانًا منه بأن القادم سيحمل مشروعًا وطنيًا قادرًا على انتشال البلاد من رمادها
لقد مُدّ البساط الأحمر للعهد الجديد، ليس كهدية مستحقة، بل كفخٍّ محكم، بسطته الولايات المتحدة الأميركية، وفرضت شروطه على القوى الإقليمية والدولية، لا حبًا في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بل لأن موازين المصالح الاستراتيجية اقتضت ذلك. ـ إلا أن العهد الجديد، الذي وُلد من رحم الثورة، وجد نفسه مكبلًا بسلاسل الضغوطات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، مما جعله كيانًا مرتبكا وهشًا، يحاول استمالة من يمكن استقطابه واحتواؤه، وهو ما انعكس ضعفًا في أسلوب إدارته للبلاد.
إذ أُديرت الدولة بذهنية الفصائل لا بمنطق المؤسسات، وبعقلية الغنيمة لا برؤية الدولة.. فكان تهميش الأغلبية الشعبية واستبعادها من المشاركة في صنع القرار، والاعتماد على توزيع المناصب كجوائز ترضية ومكافآت، لا كأدوات حكم رشيد، هذه العوامل وغيرها.. كانت سببًا في تصاعد حالة التململ والاستغراب، حتى تحولت إلى غليانٍ وانقسام. وهكذا، لم يعد السؤال: كيف سقط الطاغية؟ بل ماذا بعد سقوطه؟ وهل انتصرنا فعلًا، أم أننا فقط انتقلنا من قيدٍ إلى آخر؟
إن سقوط المستبد.. ليس سوى بداية طريق طويل وشاق، إذ لا يُقاس نجاح الثورات بلحظة الانتصار على الطغيان، بل بقدرتها على بناء نظام جديد يتجاوز أخطاء الماضي.. فالتاريخ ليس مجرد سجل للأحداث، بل هو مرآة تعكس العواقب الحتمية للخيارات التي تتخذها الشعوب في مفترقات الطرق المصيرية.
وإذا لم يُؤسس هذا العهد الجديد على أسس العدل والحوكمة الرشيدة، فإن دورة الاستبداد ستعيد إنتاج نفسها بأشكال جديدة، وإن تغيرت الوجوه والشعارات
إن مصير سوريا اليوم.. ليس مجرد مسألة سياسية آنية، بل اختبارٌ وجودي لمدى قدرة أبنائها على تجاوز أحقادهم وانقساماتهم، والارتقاء فوق المصالح الضيقة نحو مشروع وطني جامع.. فكما تُعلّمنا دروس التاريخ، ليست القوة في امتلاك السلطة، بل في بناء دولة تتجاوز الفرد والقبيلة والطائفة، دولةٌ ترسخ مبادئ العدل والقانون والحريات، وتحمي وحدة المجتمع، وتصون كرامة الإنسان.
وحده هذا المسار قادر على كسر دائرة التقهقر والتشرذم والضعف، وحماية سوريا من أن تتحول إلى كيان ممزق تتنازعه الأهواء والصراعات، فتضيع انجازات الثورة بين شعارات الانتصار وأخطاء الواقع.
المصدر: تلفزيون سوريا