ترامب وجيل ما بعد العراق

شادي لويس

في حلقة تلفزيون الواقع، حيث أخضع الرئيس الأوكراني لجولة من دبلوماسية المهانة أمام الكاميرات، ظهر وكأن الإدارة الأميركية برأسين لا رأس واحدة. على خلاف الدور المتواضع لنائب الرئيس في العرف السياسي الأميركي، يكاد جيه دي فانس أن ينال قسطاً متساوياً من ساعات البث مثل ترامب المغرم بالأضواء. كان نائب الرئيس أكثر قسوة من رئيسه تجاه زيلينسكي في هذا اللقاء، وهو بالأساس صاحب موقف أكثر تشدداً من الحرب في أوكرانيا، أعلن عنه مراراً من قبل.

ينتمي فانس إلى زمرة المحاربين القدامي الذين خدموا في العراق، وهي الحرب التي تركت بصمة عميقة على تصوراته السياسية، وشكلت جذرياً مواقفه الحالية. فبحسب مقال له، فإن الشاب المثالي الذي ذهب لينشر الديمقراطية في الشرق الأوسط عاد متشككاً في العسكرية الأميركية والإيديولوجيا التي توجه حروبها. أيضاً، تنتمي تولسي غابارد مديرة الاستخبارات الوطنية، إلى جيل العائدين من العراق، حيث خدمت هناك بين عامي 2004 و2005. والأمر نفسه ينسحب على بيت هيغسيث وزير الدفاع، الذي خدم في كلا من العراق وأفغانستان، وكان من أبرز الداعين للانسحاب من الأخيرة.
الحال أن ترامب في عودته إلى البيت الأبيض، سلم مقاليد الأمن القومي والعسكرية الأميركية لجيل ما بعد الحرب على الإرهاب، تلك الحرب التي امتدت لأكثر من عقدين وكلفت الموازنة الأميركية تريليونات من الدولارات، وخلفت وراءها بضعة ألوف من القتلى وعشرات الألوف من الجرحى في صفوف الجيش الأميركي، من دون أي مكاسب تذكر. يتشارك مسؤولو الإدارة الأميركية من هذا الجيل من أصحاب التجارب الشخصية مع الحرب، تشككاً في جدوى التورط الأميركي عسكرياً في الخارج، وإنفاق أموال دافعي الضرائب على حروب لا يعرف أحد جدواها.

الإشارة إلى العراق في سياق الحرب في أوكرانيا، تأتي من الجهة الأخرى. في لندن يعلن رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، عن “تحالف الراغبين” الذي حظى بتأييد 18 زعيماً معظمهم من أوروبا لدعم أوكرانيا، وذلك بعد يومين من المشادة الكلامية مع زيلنيسكي في البيت الأبيض. اللافت للنظر هو أن “تحالف الراغبين” هو الاسم نفسه الذي أطلقته الولايات المتحدة على تحالف القوات متعددة الجنسية المكون من 48 دولة والذي شارك في احتلال العراق العام 2003. كانت بريطانيا بقيادة حكومة توني بلير العمالية هي الشريك الأكبر للولايات المتحدة في هذا التحالف. ويبدو وكأن الحكومة العمالية الحالية بقيادة ستارمر، وريث البليرية المخلص، تسعى إلى تذكير واشنطن بوقوف الأوروبيين إلى جانبها في الماضي. هكذا فيما تبدو إدارة ترامب الثانية عازمة بشكل جلي على التخلص من لعنة العراق، يسعى حلف “الراغبين” بهذا الاسم سيء الطالع إلى العودة الرمزية إلى قبل عقدين إلى الوراء.

كان تعثر النزهة الإمبراطورية في العراق وأفغانستان وتحولها إلى كابوس بلا نهاية أمتد أكثر من عقدين، هو نقطة البداية لمنحنى أفول العسكرية الأميركية وتداعي أوهام نهاية التاريخ. جاء الانسحاب الأميركي المتخبط والمهين من كابول أثناء ولاية بايدن ختاماً مذلاً يليق بالمرحلة كلها. في المحصلة النهائية، لا يجب النظر إلى سياسات ترامب فيما يخص الحرب في أوكرانيا، وفك الارتباط مع الحلفاء على الضفة الأخرى من الأطلسي، بوصفها لحظة جنون فردية، بل بالأحرى هي امتداد لسياسات الانسحاب الأميركية التي بدأها أوباما بشكل تدريجي، ووصلت الآن إلى ذروتها. ولعل المبالغة في التلويح بالحرب التجارية ضد الحلفاء قبل الخصوم ليست سوى محاولة تغطية غير واثقة من نفسها على الاعتراف بأن زمن استخدام القوة العسكرية ما وراء البحار قد ولى بغير رجعة.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى