
ثمّة معادلة واضحة رصدها المؤرّخ المصري طارق البشري، في غير كتاب، هي أن مشروع الحركة الوطنية المصرية، منذ الثورة العُرابية إلى ثورة يوليو (1952)، يسير على قدمين؛ الاستقلالُ والديمقراطية. جاء جمال عبد الناصر، وهو ابن الحركة الوطنية وربيبُ وعيها وتحيّزاتها، وتبنّى مشروع استقلال وطني واضح، لكن بلا ديمقراطية، ولذلك فشِل. لقد فشِلَ رغم امتلاكه الرؤية والإرادة والتخطيط والتأييد الشعبي “الحقيقي”، وقد أثبتت تجاربنا بعد عبد الناصر صحّة تحليل البشري، فلم تنجح تجربة استبدادية واحدة، لا في مصر، ولا في غيرها، سواء كانت تتذرّع بالمقاومة، أو تختبئ خلف الواقعية السياسية تبريراً للاستسلام والخضوع لشروط المُستعمِر الجديد، الذي يملك 99% من أوراق اللعبة (على حدّ تعبير رائد الاستسلام الواقعي أنور السادات). الجميع فشِل، وما زالت الطرق كلّها تؤدّي إلى الهزيمة نفسها، وإن اختلفت المعالجات.
كان عبد الناصر يرى أن الاستقلال الوطني هو “القيمة”، وما عداه استعماري بالضرورة. ومن ثمّ، كلّ معارض لمشروعه، أو ناقد له من خارج النظام، هو من أعوان الاستعمار، واستباحته مشروعة، إن لم تكن واجبة، بالاعتقالات والتنكيل والتعذيب والإعدام وبغير ذلك. وأيّاً كانت التبريرات التي يسوقها الناصريون أو المتحمّسون للتجربة، التي تحاول زحزحة المسؤولية إلى غير عبد الناصر، انحيازاً له أو لما يمثّله، فهذا ما حدث، ومسؤولية عبد الناصر السياسية هي أقلّ واجب، وقد تحمّلها ناصر وحاول تجاوز أسبابها، بعد هزيمة يونيو (1967)، لكن المستقبل لم يمنحه فرصةَ كتابة تاريخ جديد.
عاش عبد الناصر مقاوماً حقيقياً، وكان مشروعه (ولم يزل) أكثر مشروعاتنا العربية جدّيةً، وأكثرها “واقعية”، على غير ما ترّوج منصّات العدو وحلفائِه، الذين تعود دبّاباتهم وطائراتهم لتثبّت ما نفاه أصحابها. ولذلك هو حاضر، حضوره واقعٌ ما دام نفوذ المستعمر، واستحضاره ضرورةٌ ما دام فشلُنا في مواجهة هذا النفوذ. وإذا كان جمال “عمل حاجات معجزة/ وحاجات كتير خابت”، كما يقول أحد أشهر سجنائه، الذين تجاوزوا ثاراتهم إلى وعيهم، عم أحمد فؤاد نجم، فإن دراسة خيبات عبد الناصر هو ضمانة عدم تكرارها، كما أن تكرارها بالطريقة نفسها وانتظار نتائج مغايرة هو تعريف الغباء الخام، وأحد أسهل الطرق لتقديم خدمات مجّانية للمستعمر، ولقاعدته العسكرية والاستخباراتية، إسرائيل، وحلفائها أنظمة الاستبداد والتطبيع العربية.
كانت ثغرة الحرّيات هي سبيل خصوم عبد الناصر إلى تشويه مشروعه، مشروع الاستقلال والمقاومة، وتحويل مفردات الكرامة السياسية في وعي الجماهير العربية، إلى معادِلات موضوعية للهزيمة والعنترية والحنجورية (والكفر والإلحاد). جرى اختزال عبد الناصر في موقفه من الديمقراطية، وفي مصائر ضحايا استبداده “الوطني”. غاب المقاوم تماماً ونهائياً، وحضر جلّاد شُهدي عطية وسيد قطب. غابت انتصارات الجلاء التام، وحرب السويس، ودعم الثورات العربية على المستعمر، ومقاومة أنظمة الرجعية العربية، أدوات الاستعمار الجديد، وحضرت هزيمة يونيو بوصفها “لحظة الحقيقة الوحيدة”، وكل ما عداها كاذب وغير حقيقي وبروباغاندا، “ويا بخت عبد الناصر بإعلامه”.
انتصرت سردية العدو، رغم تضليلها وتزويرها وشعبويتها، انتصرت لأسباب عدة، أهمها وأخطرها أنها استندت إلى حقيقة ثابتة، بها تذرّعت، وخلفها اختبأت، حقيقة لا يسع أكثر المتحمّسين لعبد الناصر إنكارها، وهي غياب الحرّيات عن مشروعه، غياب صوت الفرد في هتافات الجموع، وغياب صوت النقد في صخب المعركة، وغياب صوت الضمير في بلاغات المقاومة. من هنا مرّت قطعان الضباع، تنهش في لحم الرجل وتطحن عظام مشروعه وتَلِغُ في دماء سرديته. وما زالت.
هذا درس واضح ومكرّر وممل. لا يمكنك أن تحشد جماهير مظلومة خلف فكرة عادلة، حرّية الفرد ليست رفاهية، حرّية المجتمع ليست رفاهية، حرّية الجماهير ليست رفاهية، وليست منحة، وليست خطوة مؤجّلة إلى حين تحقيق الاستقلال أو التنمية أو حتى إزاحة إسرائيل، الحرّية ضمانة ذلك كلّه ودافعه، الحرّية ضرورة أمنية. ومن دونها فإن أيّ مشروع سياسي، مهما بدا جادّاً أو حقيقياً، هو مشروع أعرج، تسهُل عرقلته، كما تسهل (إن لم تَجبْ) هزيمته.
المصدر: العربي الجديد
رؤية المؤرّخ المصري طارق البشري، بأن مشروع الحركة الوطنية المصرية، منذ الثورة العُرابية إلى ثورة يوليو (1952) كانت تسير على قدمين “الاستقلالُ والديمقراطية”.ولكن جمال عبد الناصر، وهو ابن الحركة الوطنية تبنّى مشروع استقلال وطني واضح ولكن بلا ديمقراطية، ولذلك فشِل. رحم الله الرئيس القائد جمال عبد الناصر وأسكنه الفردوس الأعلى.