بوليساريو والحرب الوهمية

عبد القادر الشاوي

لا يُعرف حتى اللخظة، وفي العَدَم ما يُحَيِّر العقل والفهم، لماذا لا يُعلن المغرب رسمياً عن أي موقف تجاه البلاغات (البيانات) العسكرية التي تنشرها جبهة بوليساريو بين الفينة والأخرى عن عملياتٍ تدّعي أنها قامت بها، وأنها كَبَّدت الطرف الذي تحاربه “خسائر فادحة”، لا نعرف إن كانت في الأرواح أم في العتاد أم فيهما معاً. ويقال هذا لأن التقرير الذي أصدره الأمين العام للأمم المتحدة (مجلس الأمن، الحالة في ما يتعلق بالصحراء الغربية، في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2024)، أشار في فقرته عن الحالة (في الميدان) إلى وجود أكثر من ثلاث نقط إخبارية تقريرية رصدتها وأعلمت بها قوات المينورسو (بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية، قرار مجلس الأمن رقم 690، بتاريخ 29 إبريل/ نيسان 1991 تماشياً مع مقترحات التسوية المقبولة بين المغرب وجبهة بوليساريو): في نقطة أولى، من خلال تلقيها تقارير “عن عمليات إطلاق نار مزعومة من جبهة بوليساريو ضد وحدات من الجيش الملكي المغربي عند الجدار الرملي..”. وفي نقطة ثانية، بناء على “طلب الجيش وبمرافقته”، بحيث زارت البعثة “مواقع مجاورة للجدار الرملي زعم وقوع حوادث فيها، ولاحظت في معظم الحالات آثار انفجار ذخائر الهاون والمدفعية”. وفي نقطة أخيرة، وهي الأبرز، لأنها كانت بمثابة هجوم على منطقة داخلية تبعد عن الجدار الأمني بمسافة، حيث “وقع حادث إطلاق نار، زعم إن جبهة بوليساريو قامت به، استهدف منطقة مدنية في مدينة السمارة، ما أسفر عن مقتل مدني واحد وإصابة ثلاثة، بينهم قاصر. وتوصل تحقيق أجرته البعثة إلى أن أربعة صواريخ شديدة الانفجار قد أطلقت من مسافة حوالي 40 كيلومتراً شرق الجدار الرملي” .

يضاف إلى هذا أن جبهة بوليساريو تنشر دورياً، منذ سنة 2022، بلاغاتٍ حربية عن عمليات مختلفة قامت بها، وتعتبرها، ضمن الاستراتيجية الحربية التي أعلنتها بعد نقض اتفاق وقف إطلاق النار في 1991، موجّهة ضد “مواقع القوات المغربية الغازية”. ومن تلك البلاغات على سبيل المثال، وهو من آخرها، المنشور في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 ما نصّه: “استهدفت وحدات جيش التحرير الشعبي الصحراوي مطاراً عسكرياً في منطقة أكرير البوهي، بمنطقة المحبس، مُلحقة به أضرارا جسيمة”، أي أنه بالغ القوة شديد العنف، واستهدافه محكوم، وطبيعته غير مدنية، ما يوحي بوجود حربٍ غير معلنة، ولو من طرف واحد، منذ أذاع المسؤول الصحراوي في بلاغ رسمي، منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، أنه سيتخذ “إجراءات لتنفيذ مرسوم نهاية الالتزام بوقف إطلاق النار مع إعلان حالة الحرب”، وبنوع من الثقة التي توحي بالجدية والقدرة، أنه أوكل “لقيادة أركان جيش التحرير الشعبي الصحراوي اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير المتعلقة بتنفيذ مقتضياته” في منتصف ذلك الشهر، أي عندما طَهَّرَت قوات الجيش المغربي منطقة الكركرات، ما اعْتُبِرَ، وقتها، محاولة من جبهة بوليساريو للسيطرة على المعبر الحدودي مع موريتانيا قصد مراقبة والتحكّم في الطريق التجاري الرابط بين البلدين وباقي دول القارّة الأفريقية، (67 مليون طن حمولة السلع التي عبرت الممرّ خلال سنة 2019)، والوصول أيضاً إلى المحيط الأطلسي انطلاقاً من “المنطقة العازلة” التي أوجدتها الأمم المتحدة بناء على اتفاقية وقف إطلاق النار.

التغيير الجوهري الحقيقي كامنٌ في انتقال جبهة البوليساريو من منظمّة عسكرية قد تعتمد حرب عصابات إلى حركةٍ تريد أن تتهيكل، اجتماعياً وإدارياً ومَرَافِقَ، في فضاء اللجوء الجمهوري

المًراد من إيراد هذه المعطيات، وهناك غيرها، يفيد في التقدير بأن هناك طرفاً فعلياً، هو جبهة بوليساريو المشرفة بجيشها على الحرب، والتي تتّبع خطى ممنهجة وواعية بالأهمية وبالنتائج المقدرة التي يمكن أن تنتج عن الفعل، لعلها تستند إلى استراتيجية حربية، مدروسة ومدعومة وموجّهة أيضاً، ترمي منها إلى إلحاق الضرر بالقوى المغربية المرابطة على امتداد الجدار الأمني. ومن البادي أنها تسعى، من ذلك، إلى تثبيت قدم وجودها في المنطقة العازلة التي تعتبرها، من الناحية الإعلامية وربما بحكم الأمر الواقع، منطقة محرّرة، تحيطها باستمرار بنوع من الرمزية الموحية بوجود مَوْقِعٍ للكيان المفترض (الجمهورية العربية الصحراوية)، تَطَلّبَ الحِفَاظُ عليه تضحيات “فدائية” معتبرة. وهذا كله “مُخَطَّط” ليس من طبيعته أن يَرْسَخَ بنيانُه، إلا إذا كان مسنوداً بالقوة والتنظيم الهيكلي، لا تستطيع جبهة بوليساريو، فيما يبدو ولو بالدعم الجزائري السخي والمضمون، أن تضمنهما رغم وجودها فيه، ولا أن تحميهما، لأنها لا تملك من القوة ما تستلزمه الحماية، ولا من التنظيم ما قد يضمن استمراره. إلا أنها، في جميع الأحوال، تستفيد من الطبيعة الخاصة التي رسمتها الأمم المتحدة لـ”المنطقة العازلة” للإيهام، فيما يظهر أنها قادرة على تركيز وجودها فيها، طمعاً في الحصول على نوع من الشرعية المطابقة للدعاوى الأيديولوجية والسياسية المعلنة، والمتعلقة بالتحرير لتحقيق الانفصال.

ملاحظة أخرى تستحق التسجيل، مفادها أن جبهة بوليساريو حين أعلنت الحرب على المغرب أجِدُهَا قد “تورّطت” في القيام بها، في حالِ انفعالٍ وقلة رَوية، وهي لا تملك ما يكفي من القوة العسكرية التي قد تمكّنها من ضمان أي انتصار. ومن الصحيح أن وقف إطلاق النار استمرّ قرابة 30 سنة، وأن الطرفين لم يتقدّما في أي اتجاه قد يُشعر الوسطاء المختلفين، والأمم المتحدة نفسها، بوجود أي أفق ممكن، أو استعداد مؤكّد، للوصول إلى حل مقبول، لا يكون على قِياس ما يَعْرِضَانِه منه. إلا أنّ إعلان الحرب هو، في حد ذاته، تعبيرٌ عن نفاد صبر سياسي تستشعره جبهة بوليساريو بسبب ضغوط اللجوء في المخيمات، وأوضاع الشتات بالآلاف في أوروبا، واليأس النابع من السياسة المتبعة في علاقة بالحلفاء من ناحية، وفي الإمكانية، المُتَضَمِّنَة لاسْتِحَالَتِها الخاصة، لتحقيق أي تقدّم على ضوء الاختيار المركزي، السياسي والأيديولوجي، أي حق تقرير المصير والانفصال من ناحية أخرى، إلى جانب أسلوب الكفاح المسلّح، المبرّر الأيديولوجي الأول منذ انطلاقها في 1973، من أجل تحرير الأرض، رغم تغير الظروف العامة المحيطة بها، وانهيار الأيديولوجيات التحرّرية التقليدية مع تفكّك أبنيتها النظرية وفشل تجاربها العملية في أكثر من منطقة.

ويرتبط هذا كله أيضاً بما تمكن ملاحظته، في الوقت الحالي، على الظروف الخاصة التي توجد عليها جبهة بوليساريو، بعد أن تعرّضت، في أكثر من مناسبة، لانشقاقات أضعفت وحدتها السياسية والأيديولوجية. ولعلها عانت من تقلص الدعم الممنوح لها في إطار التعاون الدولي، وتخلّي بعض الدول عن الاعتراف بجمهوريتها أيضاً، إلى ما لا يمكن إنكاره من أن الهيمنة الجزائرية، بحكم الرعاية والتمويل، حوّلت أهدافها العامة تقريباً إلى شعاراتٍ تُغَذي السباق الدبلوماسي لاحتلال المواقع وَعَدِّ الأصوات.

ما فائدة العمليات العسكرية التي تدّعيها “البوليساريو”، وهي لا تحقق أيّ انتصار؟

وعموماً، في هذا ما يفيد بأن التغيير الجوهري الحقيقي كامنٌ في انتقال الجبهة من منظمّة عسكرية قد تعتمد، جرياً على النهج التحريري الكلاسيكي، حرب عصابات قد تمكّنها من احتلال بؤر للثورة، إلى حركةٍ تريد أن تتهيكل، اجتماعياً وإدارياً ومَرَافِقَ، في فضاء اللجوء الجمهوري، وتفرض على من يساعدها على التهيكل أعباء مالية وغير مالية لا قبل لها بها، ولا يمكن أن تحققها إلا إذا كانت في كنف حليف له المصالح نفسها التي له، أي ذلك الانتقال من الوعي التحريري إلى الوعي الدولتي المؤسسي، من دون أن تتمكّن، في هذا الانتقال، من إيجاد الأرض المحرّرة التي يمكن أن تقف عليها تلك الخطاطة التحريرية. وهو انتقال أيضاً من الاستقلال النسبي إلى التحالف الشامل، وإلى التبعية المطلقة للتصوّرات التي قد يمليها الحليف بالنظر إلى مصالحه القومية، لا مصالح من تسميه الجبهة “الشعب الصحراوي” الذي يعيش في خلاء اللجوء القاحل في انتظار تقرير المصير المستحيل.

والخلاصة، في ارتباط مع مفهوم الحرب المعلنة، أن الإعلام العسكري يصنع عمليات وهمية، وهو إعلامٌ يخطئ هَدَفَهُ، لأنه ينشر عملياته وعدد قتلاه، إنْ وُجِدُوا، أو غاراته، إن نُفّذت بإتقان، على فئاتٍ من الناس، إن كان يصل إليهم ذلك بالقدر المطلوب، لا يعرفون شيئاً عن المنطقة، ومن المهتمين مَن يعرف شيئاً كثيراً أو قليلاً فلا يصدُقون، لأنهم على علمٍ مُسبقٍ بأن التخلي عن قرار وقف إطلاق النار لم يكن مُقنعاً، ولم تكن هناك دوافع ذاتية معروفة، أو فعلية من حيث الاستعداد، يمكن أن تجعل منه انطلاقة جديدة في معركة النضال ضد العدو “المحتل”، المغرب في اليقين الأيديولوجي والسياسي المعلن منذ أزيد من 40 سنة. أضيف إلى هذا أن الإعلام العسكري لا يخاطب إلا المشايعين الذين جعلوا من القضية الصحراوية مناسبةً لدعم حق تقرير المصير، ورفض مقترح الحكم الذاتي المعروض منذ قرابة 18 عاماً. أضيف إلى هذا أن المهتمين المدنيين المغاربة لا يصل إليهم من ذلك شيْ كثير، لأنهم ليسوا على علم بالمعارك الدائرة إن كانت تدور، كما أن النظام الحاكم لم يعلن عن العمليات التي تصدّى بها لجبهة البوليساريو في الاقتراب من الجدار الأمني، أو تَجَاوُزِه. ولذلك، السؤال الذي يحقّ للمتتبع أن يطرحه في وجه الحرب المفترضة هو: ما فائدة العمليات العسكرية التي تدّعيها “بوليساريو”، وهي لا تحقق أيّ انتصار؟ وهل تستطيع بها، إن كانت موجودة، أن تبلغ منها ما لم تستطع بلوغه بالمفاوضات المباشرة تحت رعاية الأمم المتحدة في فترة السلم؟ ثم كيف يمكن التأكّد من حدوث تلك العمليات العسكرية إن كان الطرف المُسْتَهدف، وهو المتضرّر نظرياً، لا يعلن عنها، كما لو أنها لا تعنيه إن كان هو المعني بها؟

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى