
حالة انفجار مليارات الصور، والفيديوهات الطلقة، والمنشورات والتغريدات على الحياة الرقمية، شكلت حالة تحول في علاقة الفرد الرقمي بذاته، والآخرين، والواقع الفعلى، في ظل ثورة الاستهلاك الرقمي، والفعلى، والتفاعل فيما بينهم، على نحو متسارع فائق السرعة كسمت الحياة المعاصرة في ظل الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعي التوليدي . في عام 1967 أصدر فيلسوف الأممية الرابعة جي ديبور Guy Debord كتابا ذائع الصيت مجتمع الاستعراض، ثم التعليقات على التعليقات . كان الكتاب تحليلًا فلسفيًا، وسوسيولوجيا للتحول لمجتمع الاستهلاك المفرط، في كل تفاصيل الحياة، وتفجير الرغبات واللذات الحواسية بما فيها الإفراط الجسدى في الجنس.
تحول الذات والحواس، والرغبات إلى موضوع ، وحالة استهلاكية، كانت ولا تزال تعبيرا عن التحولات في نظم الإنتاج الرأسمالية الغربية، وهى حالة امتدت بعض من آثارها إلى المجتمعات الشيوعية/ الماركسية، وحالة الولع لدى بعضُ الشباب، بالبنطلونات الجينز، الأورو أمريكية ، وغيرها.
حركت النزعة الاستهلاكية، وانفجار ثورة الطلاب فى جامعة كاليفورنيا بيركلي الأمريكية، والسوربون عام 1968 العالم نحو التحول إلى أنماط الاستهلاك المكثف، ومن ثم لعلاقة الفرد بالوجود، والمعنى في الحياة، وبات كليهما مرتبط بالاستهلاك المفرط في إباغ رغباته، وحواسه ، وتغيير انساق القيم ، والي بعض من التحولات السياسية الكبري ، واستقالة شارل ديجول في فرنسا . كل ما هو حقيقى تحول إلى تمثيل واستعراض، ومن ثم ” تلاشى العالم الواقعى، وحلت محلّه علامات الواقعّى، التى تمنح الوهم للعالم الحقيقي ” ، وفق جي ديبور.
هذا الوصف المعمق، بدي آنذاك وكأنه تخييل فلسفي ، إلا أن تطورات الاستهلاك المفرط، ومداراته فى ظل نظم الإنتاج الرأسمالية الكبرى، جعلت من تفجير النزعات والدوافع الاستهلاكية فى كل تفاصيل الحياة إلى حالة من الوجود الانسانى، وجعلت من الإنسان/ الفرد موضوعًا لسياسات الشركات الرأسمالية الكبرى، وعالم المصارف، ومن ثم إعادة التشكيل للرغبات والميول الاستهلاكية، وجعلت الإنسان/ الفرد أسيرًا لسياجات النزعات الاستهلاكية، والاقتراض المستمر من المصارف لإشباع دوافعه الاستهلاكية المتنامية برتائر عالية ، حيث يتم إعادة النظرات إلى الذات والوجود والمعنى من خلال كميات الاستهلاك المتغير . أثرت التطورات التقنية فى اطار وسياقات الثورة الصناعية الثالثة على بعض عمليات إعادة تشكيل الوجود والشرط الإنسانى. ومن ثم كانت الكاميرات الفوتوغرافية، وثورة الصور والسينما، والتلفازات، تعيد نظرة الإنسان، إلى ذاته، وإلى الأخرين، والمجتمع، والنظرة إلى العالم.
من هنا ذهب جى ديبور إلى أن ” ليست الفرجة مجرد نتاج تقنيات التعميم الواسع للصور فحسب، بل هىّ رؤية فعلية للعالم “.
مع بدايات الثورة الرقمية، والثورة الصناعية الرابعة شكل الانترنت وفضاءاته ثورة اتصالية استثنائية، وبعدها التحول الرقمى، ووسائل التواصل الاجتماعى، التى أثرت على مفاهيم السياسة، والثقافة والحب والصداقة ، والدين والمذهب ، والأسرة، والجنس، واللذة، ونظام المأكل والمشرب، والزى… إلخ.
من هنا اصبحت المنشورات، والتغريدات، والصور الرقمية، والفيديوهات الوجيزة أحد مصادر إعادة تشكيل الرغبات، والدوافع الاستهلاكية، من خلال تحليل الشركات الرقمية الكونية للبيانات الضخمة BIG Data –” وهى فضاءات من المعلومات التى يعيش فيها الفرد الرقمى/ الفعلى كل يوم، وساعة، ودقيقة من تفاصيل وتفضيلات من زيتابايت الواسعة من البيانات التى تتدفق من خلال الحواسيب والأجهزة النقالة وأجهزة: الاستشعار الآلية ” وفق الخبراء في هذا الصدد – ، ويتم بيعها للشركات الكونية العملاقة كل فى مجال تخصصه وعمله وسياسات الإنتاج للسلع، والخدمات، والتى تعيد تشكيلها، وفق تحليل هذه الدوافع والرغبات والتفضيلات للجموع الرقمية الغفيرة المعبر عنها علي وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية.
الأهم فى هذه السياقات فائقة السرعة والتغير، ومع ثورة الذكاء الإصطناعي التوليدى، باتت مسألة الوجود، والمعنى في حالة من التوهان وتختلف عما كان سائدا في حالة التحول من الحداثة وما بعدها، وعالم المابعديات نحو مرحلة هامة، تمهدُ لقطيعة مع ما آلفه الفرد والمجتمعات، والأديان، والفلسفات في المراحل التاريخية السابقة حول الشرط والوجود الإنسانى ومسألة المعني في الحياة .
أدت انفجارات وتوسونامي الصور والفيديوهات الرقمية الطلقة والمنشورات، والتغريدات المستمر، إلى حلول الإنسان الرقمى واستعراضاته في مشاهد التواصل الاجتماعي المتغيرة ، وإلى بعض من الازدواجيات، بين السلوك الفعلى والرقمى، وتأثير التمثيل والاستعراضات الرقمية عبر الصور والفيديوهات الومضاتية على الوجود الفعلى . من هنا كان تركيز الفرد الرقمى على ذاته، ومعه الجموع الرقمية الغفيرة ، حيث الصور الرقمية، والفيديوهات الوجيزة جدا تتدفق على مواقع التواصل الاجتماعى، فى كل وجوه اليومى في المنزل، والشارع، والعمل، وأماكن التنزه، وفى تفاصيل الحياة اليومية المتعددة والمختلفة، وفى العلاقات العاطفية، والأسرية، والمساكنة، والرفقة . كل الصور والتغريدات، والفيديوهات، والمنشورات تتمركز حول الأنا ! .. أنا .. أنا .. أنا موجود. هى حالة معبرة عن هامشية الإحساس بالوجود الفعلى، وأن الفرد الرقمى المشغوف بصوره وفيديوهاته ورغباته، بات مدركًا أنه محضُ تفصيله جزئية وهامشية لا حضور لها ضمن مليارات التفاصيل اليومية، ومن ثم بات الحضور الرقمى عبر الصور، والفيديوهات، والمنشورات، والتغريدات هى علامة على وجوده وحضوره في الحياة.
لم يعُد الحضور الصورّي الرقمى، والفيديوهاتى قاصرًا على الجموع الرقمية الغفيرة، من العاديين، وإنما شمل هذا الولع بالصور والفيديوهات، والمنشورات، والتغريدات السياسيين، والكتاب، والممثلين والممثلات، بعد نهاية عصر ومفهوم الشهرة. أنتقل ما كان يطلق عليهم نجوم السينما والمسرح والغناء من كبار السن، ومن صغارهم، والمبتدئين إلى وسائل التواصل الاجتماعى باحثين عن حضورهم الرقمى، لأن وجودهم فى الحياة الفعلية هامشي ، ولم تعد بعض الأجيال الشابة، واليافعين، والأطفال يعرفون أحدًا منهم/ هن فى الواقع الفعلى، ولا السينما، ولا المسلسلات التلفازية، نظرُا لقلة الإنتاج في هذا المجال مصريا وعربيا ، ومن ثم يلجأون إلى الاستعراضات الجسدية، والآثارية والشفاهية، والتى تتناول حياتهم/ هن، وتفاصيلها فى خلافاتهم مع بعضهم بعضا، وعلاقاتهم العاطفية، ومساكناتهم رجالًا، ونساءًا، وتنابذاتهم، وثرثراتهم فى أمور تكشف عن محدودية تعليمهم، وثقافتهم، وخبراتهم السطحية.
الفنانين والفنانات يلجأن عبر أفراد وشركات، وصحف ومجلات، لكسر عاديات الجموع الرقمية الغفيرة من خلال الإثارة الجسدية، واللفظية التى تهدف إلى التعليقات، والتفضيلات، والتشييرات.
توظف بعضهن مشكلاتها الأسرية والعاطفية، ومساكناتهن فى الترويج واللهاث وراء إثبات حضورهن العام من الطلاق، والمنابذات وإفشاء بعض أسرارهن الخاصة مع ازواجهن السابقين، وعن تعنيف او ضرب زوجها، اوطليقها لها.. وبعضهن/ هم يلغون بالأكاذيب .. الخ.
لم تعد سلطة الصور الرقمية، والفيديوهات الرقمية الومضاتية- التى سبق أن أطلقنا عليهاهذا الوصف – قاصرة على الفنانين، وإنما امتدت إلى معارض الفن التشكيلى، وتصوير اللوحات، والمنحوتات، والأعمال المركبة، أو على خلفيات الصور الشخصية للفنان التشكيلى والنحات، أو الصور التي تلتقط سلفي لإثبات وتوثيق الحضور معه، أو رغبة بعض الحضور فى إثبات أنهم/ هن ممن يتذوقون الفنون التشكيلية دلالة على مكانتهم/هن الاجتماعية، وثقافتهم بقطع النظر عن مستوي معرفتهم ووعيهم وتذوقهم الفنى، أو أنهم من السراة ، والطبقة الثرية فى المجتمع!
في المسرح اختزلت المسرحيات فى الصور الرقمية التى تدور حول الممثل/ الممثلة، والمخرج، ويبدو المسرح والمتفرجين في خلفيات الصور، أو جزء من تفاصيل الصور الومضاتية دلالة على الحضور التمثيلى، والعمل فى إطار المسرحية.
باتت الصور الرقمية دلالة على الحضور، وسعيا وراء الذيوع، وأداة للدعاية، ومن ثم لم تعُد ثمة أهمية للعمل المسرحى فى ذاته تمثيلًا وإخراجا، وديكورًا، وإضاءة.. إلخ.
فى الحياة الاجتماعية الفعلية، يتم تصوير المناسبات فى المطاعم، والمشارب، والمقاهى، ومعها الصور الناطقة بالابتسامات، والضحكات المفتعلة التي تحاول التعبير عن السعادة، أو البهجة الكاشفة على الاستعراض.
من ثم بات الهاتف المحمول، واللوح الرقمى أهم مركز وأداة فى الحياة وتفاصيلها اليومية فى المركبات العامة، والخاصة، والطريق العام، والعمل، والمنزل، وجلسات الرفقة وزمر الرفاق والأصدقاء، وبات تعتبر مؤرخا وموثقا شخصيا، وجماعيا فى كل جزئيات الحياة اليومية.
الهوس الصًُورّي الومضاتى، بات مركز الرغبات والدوافع لدى الكتل الرقمية الغفيرة، والأفراد الرقميين، ومع ذلك أثرت حالة وزمن السرعة الفائقة، وتغيراتها، إلى أن يغدو أثر الصور والفيديوهات الومضاتية فائق السرعة، ومن ثم يضيع هذا الأثر الومضاتى، ويجعل من الفرد الرقمى لا يشفى ويشبع دوافعه، إلا من خلال الصور الومضة الأخرى المتتالية.
أثرت بعض البرامج والأدوات الرقمية، على كثافة الاستعراض من خلال إحداث تعديلات فى الصور، وشكل الشخصية لتغدو أكثر جمالًا فى ملامحها، وتفصيلات الوجوه، والجسد، والابتسامات.. إلخ! على نحو يكرس النزعة الاستعراضية، والتمثيلية لا الحضور الفردى الحى، الطبيعى فى كافة حالاته، حتى فى لحظات الحزن، والفقد، والفرح والبهجة، والسعادة التى تبدو غائبة، وحل محلها الاستعراضات.
تحولت لحظات الفقد وطقوس الموت والعزاء الى استعراضات من خلال الهاتف النقال، والصور والفيديوهات الرقمية فى مراسم الصلاة، والدفن والعزاء والفقد، سواء للفنانين والفنانات وأقاربهم وأصدقاءهم، جزءًا من عالم الحضور الرقمى، والاستعراضات ، ومعهم العاديين ، وبات كل ما هو حقيقى يتراجع لصالح التمثيل والاستعراض كما قال جى ديبور فى السياسة، والفنون، والثقافة، وكافة تفاصيل الحياة اليومية الفعلية والرقمية، وهو ما جعل المعنى فى الحياة محمولًا على الاستعراضات، والتمثيل، وهو ما حول الوجود الانسانى وشرطه إلى وجود رقمى واستعراضى، فى مرحلة التحول فائق السرعة نحو عالم الإناسة الروبوتية السريع نحو مرحلة ما بعد الإنسانية.
المصدر: الأهرام