لبنان كما نعرفه يموت

ستيفن أ. كوك*   ترجمة: علاء الدين أبو زينة

سنوات من الخلل الوظيفي والفساد التقت أخيراً مع وجود الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، التي ازدهرت على كليهما، مما أدى إلى إفلاس البلد في هذه العملية. ولطالما عرض لبنان نظاماً قَسَّم فيه المعتقد الديني السلطة وموارد الدولة. والملمح الأكثر بروزاً في هذا النظام هو أن الرئيس يجب أن يكون دائمًا مسيحياً، ورئيس الوزراء سنياً، ورئيس البرلمان شيعياً. وينقسم مجلس النواب -البرلمان- وفقاً للدستور اللبناني، بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين وبحصص تناسبية للطوائف المختلفة كافة. وهذا النظام إرث من الحكم الاستعماري الفرنسي، الذي سعى إلى الحفاظ على السلام الاجتماعي في بلد يتسم بالانقسامات الطائفية العديدة. لكن هذا النظام أصبح مع مرور الوقت مترسخاً في النظام الاجتماعي والاقتصادي للبنان. وحتى بعد الحرب الأهلية اللبنانية، 1975-1990، التي وقعت خلالها إراقة دموية طائفية، عاد لبنان إلى هذه الصيغة.

* *

كيف يبدو الأمر عندما تنهار دولة؟ إنه السؤال الذي يطرحه المحللون الآن أكثر من أي وقت مضى عن الشرق الأوسط؛ حيث تعاني خمس دول حاليًا من شكل من أشكال الأزمة الوجودية. لكن واحدة من هذه الدول تقف منفصلة وحدها. فقد مرت اليمن وسورية والعراق وليبيا مؤخراً بانتفاضات وحروب أهلية وتدخلات خارجية ومعارك إقليمية بالوكالة. لكن أزمة لبنان، على النقيض من ذلك، هي نتاج لعمل الذات على الذات -وهو ما يجعلها أكثر استدعاء لليأس من بقية الأزمات.

صحيح أن لبنان لا يتمتع بسيادة كاملة وهو ساحة لمنافسة إسرائيلية-إيرانية، وأخرى سعودية-إيرانية، لكن هذه المشاكل ليست السبب المباشر في مشاكل البلد الحالية. إن ما يحدث في لبنان هو دوامة الموت لنظام ما بعد الحرب الأهلية في البلاد. ولا أحد -اللبنانيين أقل من الجميع- يعرف ما الذي قد يأتي في البلد تالياً.

بالنسبة لأولئك الذين لا ينتبهون، إليكم القصة بإيجاز: سنوات من الخلل الوظيفي والفساد التقت أخيراً مع الطبقة السياسية الفاسدة في لبنان، والتي ازدهرت على كليهما، مما أدى إلى إفلاس البلد في هذه العملية. وقد ظهرت أول المؤشرات على ما وصل إليه الحال في أوائل العام 2019 عندما فرض مصرف لبنان -البنك المركزي اللبناني- أن تتم تحويلات الأموال القادمة من الخارج من خلال مؤسسات غير مصرفية، مثل “ويسترن يونيون”، بالليرة اللبنانية، حتى لو تضمن التحويل ما يشير إلى أنه ينبغي أن يتم بالدولار. وفي الأسابيع والأشهر اللاحقة، ازداد الطلب على الدولار. ولكن، من أجل إدامة وهم استقرار العملة، حافظت سلطات البنك المركزي اللبناني على قيمة سعر صرف العملة عند 1. 507 ليرة للدولار. ثم تولى قانون العرض والطلب تسيير الأمور، مما أدى إلى نشوء سوق سوداء بالدولار والمزيد من التدهور في قيمة الليرة. وعندئذ خفضت “وكالة فيتش” التصنيف الائتماني للبنان من “-B” إلى “CCC”، الذي يعني أن لبنان عرضة لخطر التخلف عن السداد على الأقل. وفي أيلول (سبتمبر) 2019، تمت تصفية “بنك جمّال ترست” بعد تعرضه لعقوبات أميركية بسبب علاقته بحزب الله. ولم يكن هذا البنك لاعبًا كبيرًا في الاقتصاد اللبناني، لكن إغلاقه أدى إلى مزيد من تآكل الثقة في قطاع الخدمات المالية. وبعد بضعة أسابيع لاحقاً، فرضت الحكومة ضريبة يومية قدرها 20 سنتًا على مكالمات تطبيق “واتس-أب”. وأدت هذه المحاولة اليائسة لزيادة الإيرادات إلى اندلاع احتجاجات استمرت طوال الخريف والشتاء الماضيين، والتي لم تكن لدى الحكومة أي استجابة لها.

منذ ذلك الحين، خرج المدى الكامل لمشاكل لبنان الاقتصادية إلى العيان. ولا ينتج لبنان الكثير؛ حيث يستورد البلد 80 في المائة مما يحتاج، بما في ذلك الغذاء والوقود. ويعتمد اقتصاده على العقارات والمصارف والتحويلات من الشتات اللبناني. وعرضت البنوك أسعار فائدة عالية لجذب الودائع بالدولار، والتي أقرضها المصرفيون بعد ذلك للحكومة. ولم تكن هذه طريقة عظيمة لإدارة نظام مالي، لكنها كانت تعمل طالما استمر تدفق الدولارات. ومع ذلك، عندما هبطت التدفقات ولم تتمكن الحكومة -المحرومة من العائدات- من رد الأموال للبنوك، انهار النظام. وفي آذار (مارس)، تخلف لبنان عن سداد ديونه، مثبتاً صحة تقديرات وكالة فيتش.

فقدت الليرة اللبنانية 85 في المائة من قيمتها، وهو ما رتّب مشقة كبيرة على الناس تحت أي ظرف من الظروف، لكن الوضع السيئ أصبح أسوأ بكثير بسبب تفشي جائحة فيروس كورونا. ومثل معظم دول العالم، عمد لبنان إلى الإغلاق في محاولة لكسر سلسلة العدوى وإنقاذ حياة الناس. ومع ذلك، ليس لدى البلد الكثير ليعرضه في ما يتعلق بشبكة الأمان الاجتماعي، وتشهد الصفوف المتزايدة من العاطلين عن العمل الآن تضخمًا هائلاً ساحقاً. وهذا وضع لا ينجو فيه أحد إلا الأغنياء. وقد تسارعت حركة الانحدار في لبنان منذ احتجاجات تشرين الأول (أكتوبر) 2019، حيث أصبح أكثر من نصف السكان في حالة فقر أو فقر مدقع. ولذلك، ليس من المستغرب أن يكون انعدام الأمن الغذائي آخذاً في الارتفاع، وأن المقايضة تصبح أسلوب حياة للبعض، وهناك القليل من الكهرباء، ويغادر القادرون البلد إلى كندا وأوروبا. وقد بلغ اليأس حداً أفضى إلى ظهور سلسلة من حالات الانتحار في شوارع لبنان هذا الصيف.

وما الذي تفعله الحكومة اللبنانية لإدارة الأزمة؟ محاربة الإصلاح، والتشاجر مع البرلمان، ومقاومة صندوق النقد الدولي، ومغازلة الصين -كل ذلك فيما يبدو أنه أمل مغرور وغير واقعي بأن لبنان الصغير هو أكبر بكثير من أن يفشل. لكنه ليس كذلك. ويجب أن يُسند الفضل إلى الموظفين المحترفين في صندوق النقد الدولي لمثابرتهم في محاولة مساعدة اللبنانيين، خاصة لأنه لا يوجد الكثير من الحماس الدولي لمساعدة الحكومة على الخروج من حالة الفوضى. وقد ظهر وزير الخارجية الفرنسي في بيروت مؤخراً، وإنما فقط لترويج رسالة مفادها أن الإصلاح هو جوهر كل شيء. وفي واشنطن، كسب الجدال حتى الآن أولئك الذين لا يريدون إنقاذ حكومة وطبقة سياسية يقولون إنهما مخترقتين من حزب الله. ولا يميل السعوديون ولا الإماراتيون إلى المساعدة. والقطريون لم يتقدموا لمد يد العون. وهذا يترك الصين وحدها لتكون الراعي المحتمل المتبقي، ولكن بمجرد أن توقع الحكومة اللبنانية مع بكين، فإن هذا يعني أنها لن تكون هناك عودة. وبالنظر إلى الوضع الحالي للعلاقات الأميركية-الصينية ونفوذ واشنطن في صندوق النقد الدولي، يجب ألا يتوقع المسؤولون في بيروت الكثير من الصندوق إذا ما اختاروا المضي قدماً بالصفقة الصينية.

من الصعب تحمل الخلل الوظيفي وتبادل اللوم وتغيّر الملومين داخل الطبقة السياسية بينما ينهار البلد من حولها. ومع ذلك، هذا ما أحدثه النظام السياسي القائم، وهو السبب في أن ملايين اللبنانيين الذين خرجوا إلى الشوارع في الخريف الماضي أرادوا تمزيق كل شيء. لطالما عرض لبنان نظاماً قَسَّم فيه المعتقد الديني السلطة وموارد الدولة. والسمة الأكثر بروزاً في النظام هي أن الرئيس يجب أن يكون دائمًا مسيحياً، ورئيس الوزراء سنياً، ورئيس البرلمان شيعياً. وينقسم مجلس النواب -البرلمان- وفقاً للدستور اللبناني، بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين وبحصص تناسبية للطوائف المختلفة كافة. وهذا النظام إرث من الحكم الاستعماري الفرنسي، الذي سعى إلى الحفاظ على السلام الاجتماعي في بلد يتسم بالانقسامات الطائفية العديدة. لكن هذا النظام أصبح مع مرور الوقت مترسخاً في النظام الاجتماعي والاقتصادي للبنان. وحتى بعد الحرب الأهلية اللبنانية، 1975-1990، التي وقعت خلالها إراقة دموية طائفية، عاد لبنان إلى هذه الصيغة.

لكن من المشكوك فيه أن يكون هذا النظام قد حافظ على السلام الداخلي في الأوقات الحديثة. وبالقدر الذي كان فيه البلد مستقراً، فقد كان ذلك على الأرجح بسبب اشتمال المجموعة الطائفية الشيعية المسلحة، حزب الله، في الحكومة. ولكن، حتى لو وصل الأمر إلى نجاح جهود لبنان في إرساء الاستقرار من خلال ما يشبه التوزيع المنظم والمتفق عليه للسلطة الطائفية، فقد ولد ذلك أيضاً مقادير ملحوظة من الفساد. وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أقر المسؤولون بالحاجة إلى تجاوز السياسة الطائفية، لكنّ ذلك كله كان مجرد كلام فحسب. والآن، تستمر المناصب في أن توزع بالاستناد إلى الانتماء الديني، وكذلك حال موارد الدولة التي يتم تدويرها من خلال شبكات المسؤولين الآخرين والبيروقراطيين والمصالح التجارية الداعمة، وعلى حساب الصالح العام. ويخلق النظام دوائر انتخابية ومجموعات من المسؤولين الذين ينخرطون في الأخذ فقط، ويصبحون أكثر ثراءً وقوةً وشراسة باطراد على حساب اللبنانيين العاديين. ولذلك، لا ينبغي أن يتفاجأ أحد بحالة البنية التحتية المضطربة في البلاد وبالخدمات الحكومية غير الموجودة فعليًا. هذا ما تبدو عليه طبقة سياسية متغطرسة وعاكفة على الهدر.

لقد عرف المتظاهرون الذين خرجوا بشكل جماعي وبحشود كثيفة في الخريف الماضي ما يحتاجه لبنان: نظام جديد بالكامل. وينبغي أن يكون واحداً يتخلص من توزيع الغنائم السياسية والمالية على أساس الطائفة، لصالح قدوم نظام أكثر إنصافاً وعدلاً. وكان من الصعب عدم الإعجاب بالإصرار والإبداع اللذين سعى بهما اللبنانيون إلى جلب هذا التغيير إلى حيز الوجود. لكنهم ظلوا، على الرغم من أفضل جهودهم، مثقلين بطبقة سياسية يشكل لها الحفاظ على النظام الحالي مسألة وجودية. وهذا يهيئ البلد لمعاناة طويلة بينما يحاول قادته، يائسين، أن يتغلبوا على إفلاسهم الأخلاقي والمالي. هذا ما يبدو عليه الانهيار.

*كبير زملاء إني إنريكو ماتي Eni Enrico Mattei لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا في مجلس العلاقات الخارجية. وأحدث مؤلفاته كتاب بعنوان “الفجر الكاذب: الاحتجاج والديمقراطية والعنف في الشرق الأوسط الجديد”.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Lebanon as We Know It Is Dying

المصدر: (فورين بوليسي) / الغد الأردنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى