هل يمكن للعملة الرقمية إنقاذ الليرة السورية؟

ماهر الوكاع

من الواضح أن هناك أزمة سيولة في سوريا، ونقصد بها أزمة في توفير الليرة السورية وليس الدولار على الأرجح، وقد أثرت هذه الأزمة على قضية الرواتب التي تحيلها الحكومة المؤقتة إلى حين الانتهاء من مسألة البطالة المقنعة المرتبطة بفساد النظام البائد.

ولتفسير المشكلة، نلجأ إلى التكهن والترجيح والاستدلال بدلًا من المعلومات الدقيقة التي مُنعنا منها، حتى عندما زرت المصرف المركزي والتقيت بالناطق الإعلامي، وقدمت له أسئلة منذ شهر تقريبًا ولم أحصل على أجوبة حتى الآن. ويبدو بعد الضغط المتزايد من الصحفيين لفهم ما الذي يحصل، خرجت في منتصف الشهر الأول حاكمة مصرف سوريا المركزي، ميساء صابرين، بتصريح مقتضب لوكالة “رويترز”، رفضت فيه التعليق على حجم احتياطيات سوريا الحالية من النقد الأجنبي والذهب، مشيرة إلى أن “مراجعة الميزانية العمومية ما تزال جارية”. وأكدت أن المصرف المركزي يمتلك أموالًا كافية في خزائنه لدفع رواتب الموظفين الحكوميين، حتى بعد الزيادة البالغة 400% التي وعدت بها الإدارة الجديدة.

تتناقض تصريحات صابرين مع ما قاله قبلها بنحو شهر رئيس الحكومة المؤقتة، البشير، حين أكد أن خزائن البنك فارغة، ومن غير المعلوم كيف تم ملؤها خلال هذه المدة القصيرة أو كيف تم توفير ما يكفي لدفع الرواتب، التي لم تُدفع بشكل شامل حتى الآن، حيث تم منح بعض الفئات، مثل المتقاعدين غير العسكريين، رواتبهم دون الزيادة الموعودة.

يقول البعض إن راتبًا يعادل 20 دولارًا لا يغني ولا يسمن من جوع. لكن ضخامة كتلة مالية كبيرة في السوق دفعة واحدة، تعادل نحو 120 مليون دولار (تشمل زيادة 400%)، وفقًا لتقدير وزير المالية محمد أبازيد، وتوزَّع على أكثر من 1.25 مليون عامل على جدول رواتب القطاع العام، سيترك حبسها أثرًا كبيرًا في السوق وسيؤثر على التجار والمزارعين والعمال والقطاع الخاص كاملا.

لم يتوقف الضرر عند هذا الحد، بل وصل إلى الفئة التي نجت من كوارث النظام المالية وكانت سببًا في صمود فئات أخرى مرتبطة بها، وهي الأسر التي تتلقى حوالات مالية من الخارج. بدأ المضاربون باستهدافهم مطلع شباط، وهو الموعد المفترض لتلقي الحوالات بداية كل شهر، حيث وصل سعر الصرف إلى 7900 ليرة مقابل الدولار في دمشق، وهو فرق يصل إلى النصف مقارنة بسعر المصرف المركزي البالغ 13 ألف ليرة للدولار، مما يعني سرقة نصف قيمة الحوالة من قبل المضاربين بالمعنى الحرفي.

نبقى في دائرة الاستدلال والتكهن مع حبس المعلومة والسيولة في آنٍ معًا، ونرجح صدق تصريح رئيس الوزراء الذي قال إن الخزائن فارغة، ونفترض أنه يقصد الليرة السورية فقط، مع وجود رصيد جيد من الذهب والدولار. ومع تحول المشكلة إلى قضية رأي عام ظهرت منذ يومين إشاعات عن هبوط طائرات شحن محملة بالعملة السورية قادمة من روسيا.

لماذا روسيا؟
مع بداية الثورة وفرض عقوبات أوروبية على النظام، توقفت شركة نمساوية عن طباعة العملة، فلجأ النظام إلى الاتفاق مع شركة “جوزناك”، وهي المطبعة الحكومية المسؤولة عن سك العملة في روسيا. وفي صيف 2012، طبعت الشركة للنظام 240 طنًا من الأوراق النقدية السورية. استخدم النظام شركتين وهميتين في قبرص لتسهيل المدفوعات، وهما شركتان واجهتان قانونيتان، يديرهما رجل الأعمال عيسى الزيدي، وهو سوري يحمل الجنسية الروسية ومُدرج على قائمة العقوبات الأميركية منذ 2014.

ويبدو أن روسيا تولت مهمة الطباعة منذ ذلك الوقت وحتى اليوم. وبعد سقوط النظام وتولي الإدارة الجديدة شؤون البلاد، جرت مفاوضات مباشرة بين الشرع ومبعوث بوتين- لا نعرف إذا ما طرحت القضية- ، ومن الواضح أن روسيا لن تسلم هذه الأوراق الثمينة الآن بالمجان، بل لديها شروطها. وفي حال عدم الموافقة على الشروط أو تأجيلها، يبقى البحث عن شركة بديلة، وهو ما يصطدم بعامل الوقت والعقوبات.

نجزم بصحة الفرضية رغم غياب الشفافية، الذي قد يكون له ضرر، نظرًا لارتباط المعلومة بالمال، لكن بالتأكيد نفع  الشفافية أكبر، فهي التي تسمح للعقل الجمعي بابتكار الحلول والمشاركة في صناعتها. ونتفهم أن “حبس” المعلومة في سياق عسكري ضروري، إذ قد تؤدي كلمة أو رقم إلى إفشال خطة وبالتالي إزهاق أرواح، لكن عند الانتقال إلى إدارة دولة، قد تختلف الرؤية.

بعد سقوط النظام، أثار تعميم بضرورة تنزيل الموظفين لتطبيق يُدعى شام كاش لدفع الرواتب لهم الريبة، وتحول إلى “ترند”. وشكك “المختصون” في أمانه، لأنه غير متوفر على “بلاي ستور”، بل يجب تنزيله من موقعه مباشرة. أثار هذا التطبيق فضولي، فسألت عنه أحد الأصدقاء في إدلب، فقال إنه يتبع لبنك الشام الذي افتتحته الهيئة. قدّم لي الإجابات ساخرًا من التشكيك، ثم فتح التطبيق على هاتفه، وعرض رصيده بالدولار، وسدد فاتورة الكهرباء أمامي، مؤكدًا أنه يستطيع إجراء التحويلات الداخلية والدفع مباشرة من خلاله، وأن الثقة فيه ليست محل نقاش.

تحت ضغط “الترند” أو “الخبراء”، اختفى الحديث عن التطبيق، ويبدو أن استخدامه اقتصر على من يثقون به من سكان إدلب. كما يبدو أن الرواتب دُفعت لكوادر الهيئة، أو حتى الحكومة، عبر التطبيق، إذ شاهدت كُوَّةً مخصصة له في المصرف المركزي.

لم يُدرَج التطبيق في متجر “آبل” أو “غوغل” بسبب العقوبات المفروضة على سوريا، ولا أعلم مدى كفاءته الأمنية عندما يُستخدم على مستوى الدولة، خاصة في مواجهة قوى مثل روسيا، التي اخترق قراصنتها أنظمة أميركية وأوروبية. لكن يمكن فحصه من قبل مختصين في الأمن السيبراني المعروفين باسم “الهاكرز البيض” والتأكد من أمانه، أو التوجه إلى دولة صديقة لتقديم تطبيق مرخص وآمن يشكل بديلًا مؤقتًا ريثما تُحَل مشكلة السيولة.

ما العلاقة بين شام كاش والسيولة؟

يوفر التطبيق إمكانية ضخ عملة رقمية عبر المصرف المركزي (CBDCs) كبديل عن السيولة النقدية. وإذا لم يكن بالإمكان ربطها بمقابل في الليرة، فمن الممكن أن يكون المقابل بالدولار. هذا المقترح ليس خيالًا علميًا، فهناك تجارب رائدة ليست حكرًا على الدول المتقدمة تقنيًا.

  • في نيجيريا، أُطلقت eNaira عام 2021 كعملة رقمية صادرة عن البنك المركزي.
  • في الصين، وُسِّع استخدام اليوان الرقمي (e-CNY) ليكون بديلاً محتملاً للنقد، بعد اختباره في عدة مدن واستخدامه رسميًا في أولمبياد 2022.
  • جزر البهاما كانت سبّاقة في هذا المجال، حيث أطلقت Sand Dollar عام 2020 لتوفير الخدمات المصرفية في الجزر النائية.
  • تبعتها جامايكا بإصدار JAM-DEX عام 2022 بهدف إدماج غير المتعاملين مع البنوك في النظام المالي.
  • في الهند، بدأت تجارب الروبية الرقمية (e₹) عام 2022 لتعزيز الاقتصاد الرقمي.
  • أما البرازيل، فهي تعمل على تطوير Drex كنسخة رقمية من الريال البرازيلي

سيقول “الخبراء” إن هذا الطرح غير ممكن أو مستحيل بسبب عدم جاهزية البنية التحتية، وعدم ثقة الشعب به، فضلًا عن عشرات العقبات الأخرى. لكن، لو عدنا إلى رأي الخبراء، لكانت عملية “ردع العدوان” ضربًا من الجنون، وطائرة “شاهين” مثارًا للسخرية.

الانتقال إلى هذا الخيار لا يتطلب أكثر من هاتف متصل بالإنترنت، وهو متوفر في سوريا. أما عن ثقة السوريين، فسيكون الفارق بين سعر الصرف في السوق السوداء والمصرف المركزي هائلًا، مما قد يدفع المتعاملين إلى تجربة هذا النظام بمبالغ صغيرة، إذا ما رُبطت مدفوعات الحكومة جميعها به.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى