انهيار الليرة السورية: نقطة انعدام الأمل ومخاطر تجدد العنف

محمد شعباني

من الصحيح أن انهيار سعر صرف الليرة السورية أدى لتراجع القوة الشرائية للعاملين بأجر في سوريا، إلا أنه من الصحيح أيضا أن هذا الانهيار قد فقد الكثير من قدرته في التأثير في معيشة السوريين، فمسار انهيار الليرة السورية منذ العام 2011 يظهر أن واقع الاقتصاد والمعيشة للسوريين قد وصل إلى مخاطر الانهيار الكلي في الاقتصاد بما تحمله تلك المخاطر من تجدد موجة العنف في سوريا.

بدأ انهيار الليرة السورية منذ العام 2011 حيث خسرت في حينه نحو 45% من قيمتها، إلا أن هذا الانخفاض تزامن مع زيادة في أجور العاملين لدى الدولة المقدر عددهم بنحو مليون ونصف المليون، وعلى الرغم من محدودية تأثيره، بسبب ما يرفقه عادة من رفع جزئي عن الدعم في أسعار العديد من السلع الأساسية مثل المحروقات والخبز، فقد حافظ على جزء كبير من قيمة الأجور والتعويضات، إذ بلغ متوسط قيمتها مقومة بالدولار بنحو 175 إلى 225 دولارا، أي أنها خسرت ما يعادل ثلث قيمتها مقارنة بما كانت عليه في عام 2010 عندما كان متوسط أجور العاملين لدى الدولة يقدر بنحو 300 دولار.

استمرت قيمة الليرة السورية بالانخفاض تدريجيا بين عامي 2012 و2018 في حالة من التذبذب بين صعود وهبوط مع ميل عام للهبوط، الذي وصل بسعر صرف الليرة مقابل الدولار في عام 2016 إلى حدود تتراوح ما بين الـ400 إلى 500 ليرة سورية (ل.س) وهو السعر الذي استقرت عنده الليرة بين عامي 2016 و2018.

وكما في السنوات السابقة تزامن هبوط سعر صرف الليرة مع زيادة محدودة التأثير في الأجور والتعويضات، فوصل متوسط أجور العاملين في الدولة مقومة بالدولار الأمريكي إلى نحو 100 دولار، وهو ما يعادل خسارة ثلثي قيمة أجور التعويضات. وعلى الرغم من الضائقة الكبيرة التي ألحقت بمعيشة العاملين بأجر في سوريا، بسبب هذا الانخفاض الهائل في معيشتهم فإن تلك الأجور والتعويضات إلى جانب مصادر الدخل الأخرى، كانت تقي جزءا منهم، على الأقل، من الهبوط إلى ما دون خط الفقر.

الانهيار الكبير

جاءت مرحلة الانهيار الكبير في سعر صرف الليرة السورية مع نهاية عام 2019 حيث قفز سعر صرف الليرة من نحو 500 ل.س مقابل الدولار إلى نحو 1000 ليرة! أي أن العملة السورية فقدت نحو 50% من قيمتها خلال أقل من عام واحد، وهو ما شكّل صدمة كبيرة في الأسواق دفعت إلى موجة جديدة من الهجرة للسوريين، لكن هذه المرة ليس لأسباب أمنية، بل لأسباب اقتصادية، حيث شملت موجة الهجرة العاملين بأجر من أصحاب المهن والكفاءات وغيرهم إلى جانب هجرة جديدة لرؤوس الأموال التي فقدت ثقتها في تحسين الأوضاع الاقتصادية أو حتى استقرارها على ما هي عليه. إذ وصل متوسط أجور العاملين لدى الدولة وقتها إلى نحو 50 دولارا! أي أن العاملين لدى الدولة قد خسروا ما يزيد عن 80% من قيمة الأجور والتعويضات التي كانوا يتلقونها في عام 2010.

منذ ذلك الوقت أخذت الحالة المعيشية في سوريا بالتدهور بشكل دراماتيكي، وصولا إلى عام 2021 حيث بلغ متوسط أجور العاملين لدى الدولة نحو 28 دولارا، أي لم يتبق من أجورهم سوى 10% مما كانوا يحصلون عليه في عام 2010، وطبقا لذلك فإن متوسط أجر العاملين لدى الحكومة السورية غير كاف حتى لرفع شخص واحد (أي بافتراض انه لا يعيل سوى نفسه) عن خط الفقر المحدد بـ 2.5 دولار أمريكي في اليوم حسب التقديرات الأخيرة للأمم المتحدة. ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة أيضا، فإنه في عام 2021 أصبح نحو 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر! إذن ما الذي أضافه الانهيار الأخير لليرة السورية على المأساة المعيشية للسوريين؟ في الحقيقة التأثير محدود للغاية، فسعر صرف الليرة السورية الذي بلغ نحو 13000 للدولار الواحد، والذي ترافق مع زيادة في الأجور، ورفع الدعم جزئيا عن المحروقات والغاز، لم يغير الكثير لجهة سوء الأوضاع ذاتها، فبالرغم من انخفاض قيمة الأجور والتعويضات إلى نحو 20 دولارا، فهي لم تكن تكفي حتى قبل الانهيار الأخير، لأكثر من بضعة أيام. وبالتالي، فإن العاملين لدى الحكومة، ممن يتدبرون أمر معيشتهم عبر مصادر دخل أخرى (أهمها حوالات ذويهم في الخارج) لن يؤثر عليهم تراجع دخل وظائفهم.

لكن إذا كان تأثير انخفاض قيمة الليرة في أجور العاملين لدى الدولة يكاد يكون معدوما، فماذا عن العاملين في القطاع الخاص؟ في الحقيقة حجم التأثير لا يبتعد كثيرا عن حجم التأثير في أجور العاملين في القطاع العام ، فمتوسط أجور العاملين في القطاع الخاص (مع بداية عام 2023) في حده الأدنى يتراوح بين الـ150 إلى 200 ألف ل.س، في المهن ذات المهارات المنخفضة وفي المدن والمناطق الواقعة خارج مدينتي دمشق وحلب، وفي حد أدنى يتراوح بين 250 ألف و500 ألف ل.س، في المهن ذات المهارات المرتفعة، وغالبا في مدينتي دمشق وحلب، ويمكن أن يصل في حده الأعلى إلى ما بين مليون ومليون ونصف ل.س. أما الأجور التي تتعدى ذلك فتبقى في نطاقات ضيقة للغاية، ولا تمثل إلا نسبة ضئيلة من إجمالي القوى العاملة.

وباختصار فإن شريحة واسعة من العاملين/العاملات في القطاع الخاص، وفقا لمستويات الأجور المذكورة آنفا، لا تبتعد كثيرا في مستويات معيشتها عن العاملين في القطاع الحكومي، لكن الفرق النوعي بينهما، هو مرونة التغير في الأجور في القطاع الخاص، التي تتحرك بسرعة والحجم الأكبر نسبيا من الأجور في القطاع الحكومي، وبكلمات أخرى، لا يستطيع القطاع الخاص أن يفرض أجورا لا تكفي لحد الكفاف على الأقل لشخص واحد. وما يجعل الأمر على هذا النحو، هو أولا رفض العاملين في القطاع الخاص للعمل بأجر بالكاد يكفي لثمن أجور المواصلات وتبعات العمل (طعام وثياب وغيرها) وهذا بعكس حالة العاملين في القطاع العام المجبرين على ذلك. وثانيا قدرة القطاع الخاص على رفع أسعار سلعه وخدماته مباشرة مع كل انهيار جديد لسعر الصرف.

وبالتالي، فإن متوسط أجور العاملين/العاملات في القطاع الخاص، سيكون أيضا أقل تأثرا بالانهيار الأخير في سعر صرف الليرة، فعلى المدى المتوسط سوف تعاود مستويات الأجور للارتفاع إلى حد الكفاف الذي كانت عليه سابقا. وهو ما كان يحدث باستمرار منذ الانهيار الكبير في عام 2019.

زيادة إسمية

إن الانهيار الأخير لليرة السورية لا يحمل تغييرات كبيرة في الوقع المعيشي للسوريين، لكن خطورته تكمن في الوصول إلى نقطة فقدان الأمل في أي تحسن للواقع المعيشي والاقتصادي للسوريين، لا سيما وأنه، أي الانهيار، أتى بالتزامن مع حدثين: الأول هو عودة العلاقات العربية مع الحكومة السورية، والذي كان من المتوقع أن ينعكس إيجابا على الوضع الاقتصادي، ولاحقا أن يؤدي إلى انفراجات كبرى اقتصادية وسياسية، إلا أن المؤشرات التي تبعت ذلك جاءت مخالفة للتوقعات المأمولة فلا دعم اقتصاديا وصل، ولا انفراجات اقتصادية وسياسية تلوح بالأفق. أما الحدث الثاني فهو قرار الحكومة السورية الأخير بزيادة الأجور بنسبة 100% للعاملين في القطاع العام الذي تبعه، كما جرت العادة، قرار برفع الدعم عن أسعار المحروقات (الفيول والبنزين) والغاز، بنسبة تتجاوز الـ200%، وهو ما أدى إلى جعل الزيادة إسمية، بسبب الارتفاع العام في الأسعار الذي فاق نسبة الزيادة في الأجور.

ولهذا انعكاسات سياسية واقتصادية تتمثل في هروب ما تبقى من رؤوس أموال وكفاءات علمية ومهنية وهو ما من شأنه أن يدخل الاقتصاد السوري في موجة فقر جديدة يصل معها الوضع إلى توقف جزء كبير من النشاط الاقتصادي القائم حاليا، وخسارة ما تبقى من كفاءات علمية ومهنية، وهو ما يشهد عليه قطاعا الصحة والتعليم. أما الخطر الأكبر فقد يظهر في توقف المؤسسات الحكومية عن تقديم خدماتها في ظل النقص المستمر في الكوادر، ودخول مرحلة العجز حتى عن شراء المواد والسلع الأساسية مع ظل الشح الكبير للعملات الصعبة في الأسواق وبالتالي الدخول في مخاطر حدوث مجاعات بالمعنى الدقيق للكلمة، أي عدم قدرة الأفراد على الوصول إلى الغذاء والماء والخدمات الأساسية، خاصة وأن حالة القطاع الزراعي السوري تشهد تراجعا غير مسبوق من الناحية الإنتاجية. على المستوى السياسي فإن الانعكاسات قد ظهرت سريعا، متمثلة بموجة الاحتجاجات الجديدة التي انطلقت من الجنوب السوري، والأخيرة تحمل معها مخاطر الدخول في موجة عنف جديدة، وتقسيم المقسم، في ظل حالة تأزم الحل السياسي.

كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى