تحدّيات سورية الجديدة والآفاق الواعدة إقليمياً

عبد الباسط سيدا

بصرف النظر عما قيل عن طريقة إعلان أحمد الشرع رئيساً لسورية في المرحلة الانتقالية، كان من المسلّم به أن يكون هو الذي سيتولّى المهمّة في هذه المرحلة الاستثنائية بكل المقاييس في التاريخ السوري، منذ تأسيس الدولة السورية قبل أكثر من قرن. فهناك من تحدّث عن أهمية حضور الضبّاط المنشقّين، وهناك من تحسّر لعدم وجود شخصيات وطنية، أو قوى وأحزب مدنية، ساهمت بفاعلية في الثورة، أو تشكلّت خلال سنوات الثورة الطويلة، وذلك لإضفاء مزيد من الشرعيّة على القرار، الذي كانت الحاجة إليه ماسّة.
كما تناول بعضهم، حتى من موقع العتاب، وليس النقد فقط، طريقة نقل الخبر إلى وسائل الإعلام، فالكلّ رأى أن حدثاً بهذا الوزن كان لا بدّ أن يعلن في مؤتمر صحافي في حضور وسائل الإعلام السورية والعربية والعالمية. وباعتبارنا غير مطّلعين على ما جرى، لا يمكننا أن نضيف جديداً في هذا المجال، إلا باعتماد ما سمعناه وقرأناه هنا وهناك، ولكن المهمّ اللافت في اجتماع الفصائل العسكرية الذي شهد القرار إعلان حلّ الفصائل وتوحيدها ضمن الجيش السوري، وهذا أمر حيوي بالغ الأهمية والضرورة لقطع الطريق أمام الصراعات والصدامات التناحرية الكارثية مستقبلاً.

رغم قصر كلمة الشرع، إلا أنها كانت أشبه بخريطة طريق للمرحلة الانتقالية المقبلة في سورية، من المفترض إعلانها قريباً

وفي هذا السياق، أتذكّر أننا في بدايات تأسيس المجلس الوطني السوري (2012)، وكانت الحالة الفصائلية في بداياتها، كنا في زيارة برئاسة رئيس المجلس في حينه برهان غليون إلى نيويورك، حيث عقدنا بعض الاجتماعات في أروقة الأمم المتحدة مع الأشقاء والأصدقاء، التقينا بأعضاء البعثة الليبية وفي مقدّمتهم عبد الرحمن شلقم. وبعد تبادل الفِكَر والآراء، توجّه شلقم إلى غليون قائلاً: “أنصحكم بتعيين وزير للدفاع منذ الآن، حتى لو لم تكن لديكم حكومة، لضبط الفصائل، وإلا ستواجهون بفوضى عارمة”، كما هو الحال عندنا راهناً. وكان من الواضح أن الرجل لم يكن ينطق عن الهوى، لأنّنا واجهنا لاحقاً حالةً كارثية، لم تنفع معها محاولات وجهود التوحيد كلّها، رغم المشاريع الكثيرة التي حملت شعارات توحيد العمل العسكري، وضرورة أن يكون هذا العمل خاضعاً للقرار السياسي وملتزماً به.
ما نأمله أن ينفّذ القرار الخاص بالوحدة ضمن الجيش السوري بحذافيره هذه المرّة، وذلك سدّاً لسائر الذرائع والمفاسد، فالجيش الوطني الفعلي، لا الشعاراتي، يُعدّ مدرسةً وطنيةً جامعة، وبفضل هذا الجيش سيتمكّن شباب سورية من التعرّف إلى بعضهم، وسيمدّون الأواصر الوطنية في ما بينهم، الأمر الذي يساعدهم في مواجهة المخاطر بروحية وطنية، لا تتقاطع مع رغبات أصحاب النزعات الطائفية أو المناطقية التي أثبتت الوقائع أن استغلالها للجيش قد حوّل هذا الأخير أداةً للتسلّط، واللصوصية، والقمع والفساد. ويبدو أن المسؤولين في الإدارة السورية الجديدة، ومنهم الرئيس الشرع نفسه، قد انتبهوا إلى الثغرات التي كانت. لذلك كان القرار في اليوم التالي توجيه كلمة إلى الشعب السوري، وهي الأولى التي يوجّهها الشرع إلى السوريين منذ وصوله إلى دمشق، وهروب بشّار الأسد، وسقوط سلطة آل الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024. وانتظر السوريون الكلمة بفارغ الصبر، لأن ما جرى ويجري يتعلّق بصورة صميمة بمصيرهم، ومصير أبنائهم وبناتهم وأجيالهم المُقبلة. ورغم قصر الكلمة، وهذا جيّد في جميع الأحوال، إلا أنها كانت أشبه بخريطة طريق للمرحلة الانتقالية المقبلة، المفترض إعلانها في القريب العاجل.
وممّا جاء في الكلمة أن الرئيس الشرع سيُعلِن حكومةً وطنيةً جامعةً، تمثّل التنوع السوري، لتقود المرحلة الانتقالية؛ كما ستُعلَن لجنةٌ تحضيريةٌ مهمتها تشكيل مجلس تشريعي مصغّر مؤقّت، من المفترض أن يعبّر عن التنوّع المجتمعي السوري، وعن التوجّهات السياسية لمختلف القوى التي عارضت سلطة الأسد، ودفعت ضريبةً باهظة لقاء مواقفها.
كما ذكر الشرع في خطابه، في الوقت نفسه، أنه سيُعلِن تشكيل لجنة تحضيرية في القريب العاجل للإعداد لمؤتمر وطني، لمناقشة مستقبل البلاد، والتوافق على ملامح المرحلة المُقبلة، وإصدار الإعلان الدستوري. وجدير بالذكر أن البيان الذي صدر عن اجتماع الفصائل العسكرية، وأُعلِن فيه تكليف الشرع الرئاسة المؤقّتة للبلاد في المرحلة الانتقالية، تضمّن قراراً بحلّ حزب البعث وسائر أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية التي كان حافظ الأسد قد شكّلها عام 1972، ليتمكّن من تدجين سائر الأحزاب المنضوية ضمن إطارها؛ كما جاء في البيان المعني قرارٌ بحلّ جميع الأجسام المدنية والعسكرية التي كانت تُحسب على الثورة السورية.
الظروف التي تمرّ بها سورية راهناً استثنائية بالمقاييس كلّها، فهناك تراكمات سلبية كثيرة تشكّلت نتيجة طول المدّة التي تحكّمت خلالها سلطة آل الأسد المستبدّة الفاسدة المُفسِدة بمفاصل الدولة والمجتمع والحياة الخاصّة للأفراد، ومن المتوقّع أن تظهر سلوكات غير سوية، وتجاوزات هنا وهناك، من مسؤولين كلّفوا بمهام الإدارة من دون تدقيق أو تأكّد من مؤهّلاتهم وخبراتهم، وحتى من مواقفهم على صعيد إمكانية التعامل الحيادي الموضوعي وفق القوانين. وهذا يوجب وجود إمكانية المساءلة والمحاسبة، لمعالجة سائر الأخطاء في الوقت المناسب، وقبل أن تتحوّل ظاهرةً لها من يحميها ويدافع عنها من موقع المُستفيد. ولبلوغ ذلك، لا بدّ أن تكون حرّية التعبير مصانةً بموجب مظلّة قانونية، يعبر الناس عن أفكارهم وهواجسهم وتطلّعاتهم بحرّية، من دون أيّ خوف أو انتهازية، للمحافظة على الفرح السوري الذي ساد في كل مكان بعد الخلاص من الطاغية، والعمل على استمرارية هذا الفرح عبر الإجراءات المطمئنة، لا المشاعر والعواطف والمجاملات العامّة، التي تفتقر إلى بُعدٍ ملموسٍ واقعيٍّ في الأرض.
وفي هذا السياق، لا يجوز فرض القيود على حرّية الاجتماعات واللقاءات، أو منعها بأوامر غير واضحة، كما لا يجوز منع تشكيل الأحزاب والتيّارات السياسية، ما دامت بموجب القوانين المُعتمَدة. فالأحزاب والأجسام السياسية التي تجمع بين أناس يتشاركون التوجّهات المتقاربة، والتطلّعات المتماثلة، تظلّ الأساس في أيّ نظام جمهوري يستمد مشروعيته من إرادة مواطنيه الأحرار، بموجب انتخابات نزيهة شفّافة.
وهنا، لا بدّ من تأكيد أهمية التوقّف عند البيان الذي صدر عن مجموعة من مفكّرين وكتّاب وفنّانين وحقوقيين سوريين، وهي مجموعة وازنة لها حضورها المحترم في الوسطين السوري والعربي، وهناك أشخاص منها لهم وزنهم على المستوى الدولي. والبيان يجسّد صوتاً وطنياً مخلصاً يحرص على الوطن وأهله بانتماءاته وتوجّهاته، وهذا كلّه يوجب قراءة البيان جيّداً، والتمعّن في الهواجس التي يحذّر منها، والمطالب التي يؤكّد أهميتها، فمثل هذا الأمر سيكون في صالح وحدة سورية وسلامة أهلها، الذين أبهروا العالم بشجاعتهم وتحمّلهم وصبرهم، دفاعاً عن حرّيتهم وكرامتهم، وتفانيهم في سبيل ضمان مستقبل أفضل لأجيالهم المُقبلة.

يبقى الوضع الداخلي المتماسك خطّ الدفاع الأول لمواجهة التحدّيات الموضوعية القائمة سورياً في مختلف الميادين

المرحلة التي تعيشها سورية بالغة الحساسية، وهذا لا يختلف فيه اثنان. وتشمل هذه الحساسية الوضع الداخلي السوري نفسه، والوضع الإقليمي، وحتى الوضع الدولي. ولكن الوضع الداخلي المتماسك يبقى خطّ الدفاع الأول لمواجهة التحدّيات الموضوعية القائمة حالياً في مختلف الميادين، وعلى مختلف المستويات، أو تلك المتوقّعة المحتملة مستقبلاً. وتعزيز التماسك الوطني يكون من خلال طمأنة سائر المكوّنات السورية والمواطنين السوريين، واحترام الخصوصيات والحقوق؛ وهذا كلّه لن يتحقّق من خلال شعارات وعبارات الانتهازيين والمكوّعين المنمّقة، التي تفتقر إلى أيّ مصداقية، ولا تلتزم بأيّ حرصٍ مسؤول على مستقبل البلد وأهله. كما لا يمكن تحقيق التماسك الوطني، أو بلوغ الوحدة الوطنية القوية على صعيد الأرض والشعب، بالعقلية الانتقامية، أو بالخطابات والتوجّهات الطائفية والعنصرية البغيضة، التي يروّجها بعضهم في منصّات التواصل الاجتماعي، وهي خطابات ونزعات تفرّخ الأحقاد وتكرّسها، وترسّخ الهواجس، وتروّج الكراهية. والأوطان كما نعلم جميعاً لا تُبنَى على الكراهية والأحقاد، ولا تصبح قويةً محصّنة ما لم نتمكّن من استيعاب الآخر المختلف، بل واحترامه، والقدرة على العمل المشترك معه لصالح سورية وشعبها راهناً ومستقبلاً، منفتحةً على محيطها العربي وجوارها الإقليمي والمجتمع الدولي. وفي هذا السياق، تجدر الإشادة بالزيارة التي قام بها أمير قطر إلى سورية لتهنئة شعبها وقيادتها الجديدة. وكذلك بالزيارة التي قام بها الرئيس السوري إلى السعودية لشكرها وتأكيد أهمية دورها المحوري. وما نأمله أن تندرج الزيارتان ضمن المؤشّرات الواعدة في طرق تبلور ملامح مشروع عربي، يعيد التوازن إلى المعادلات المختلّة على مستوى الإقليم، ما من شأنه المساهمة في وضع حدّ لمعاناة شعوبه المغلوبة على أمرها.

 

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى