قراءة في دلالات تصريحات قائد “جيش سوريا الحرة”

إياد الجعفري

تلفت تصريحات قائد ما يُعرف بـ”جيش سوريا الحرة”، قبل أيام، إلى حجم التعقيد الذي يحيط بملف توحيد “البندقية” في الداخل السوري، في حين يُضيف صدور هذه التصريحات، من خلال صحيفة إماراتية ناطقة بالإنكليزية، مؤشراً آخر على حجم التأثير الخارجي على هذا الملف الشائك. وهو ما يتطلب روية طويلة الأمد لتفكيك تعقيدات أخطر ملف يهدد شكل “سوريا المستقبل”، واستقرارها، وفاعلية “دولتها“.

ورغم أن سالم تركي العنتري يقود بضع مئات من المقاتلين، وفصيله لم يتمتع بفاعلية حاسمة في أيٍّ من الملفات التي تصدى لها — مكافحة تهريب المخدرات إلى الأردن، ومكافحة خلايا تنظيم “الدولة الإسلامية (داعش)” — إلا أنه استطاع الترويج لدوره الوظيفي بشكل جيد عبر إطلالته الإعلامية الأخيرة. فقد أشار إلى تضاعف المساحة التي تتعامل معها مجموعته المسلحة ثلاثة أضعاف بعد سقوط نظام الأسد، متكئاً على المخاوف من انتعاش “داعش”، بدفعٍ من الفراغ الأمني والعسكري في مواقع شاسعة من البادية السورية، ومحذّراً من عواقب الانسحاب الأميركي من سوريا على مكافحة التنظيم المتطرّف، مع خسارة التكنولوجيا العسكرية المتفوقة للولايات المتحدة الأميركية، والتي لعبت الدور الحاسم في استهداف خلايا التنظيم ولجم انتعاشها على مدار السنوات الفائتة منذ هزيمة “دولة التنظيم” في العام 2019.

بالنسبة للكثيرين، تُعدّ “داعش” فزّاعة تلوّح بها القوى السورية المدعومة أميركياً خشية خسارة هذا الدعم مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. والرئيس الأميركي العائد إلى السلطة كان من أبرز المتحمسين لسحب قوات بلاده من سوريا في ولايته الأولى قبل نحو خمس سنوات. وبالإضافة إلى “جيش سوريا الحرة”، تستخدم “قوات سوريا الديمقراطية – قسد” ذات “الفزّاعة”، لكن بفاعلية أكبر، خاصة مع دورها الحاسم في إنهاء “دولة التنظيم” قبل خمس سنوات، بدعم أميركي، وإمساكها اليوم بملف مسجوني التنظيم الخطرين. لكن، هل “داعش” مجرد “فزّاعة” فقط؟

يُجيب قائد “جيش سوريا الحرة” على ذلك بصورة غير مباشرة عبر الإشارة إلى كفاح السلطات الجديدة في دمشق للسيطرة على الأمور في البلاد، ويومئ إلى تنسيقه معها، في الوقت ذاته الذي يقول فيه إنها تبذل قصارى جهدها، لكنها لا تملك “عصا سحرية”، في إحالة جليّة إلى عجزها عن السيطرة على كافة الملفات الأمنية–الميدانية المعقّدة على كامل التراب السوري.

وفي هذه الأثناء، يتصدر ملف “فلول نظام الأسد” الأولويات من الناحية الأمنية–الميدانية بالنسبة لإدارة العمليات العسكرية التابعة للسلطات في دمشق. وتبدو أنها منغمسة بصورة كبيرة في هذا الملف، الأمر الذي يعزز حجّة العنتري المشار إليها أعلاه.

في الوقت نفسه، يبدو بحث قوى محلية سورية عن أدوار وظيفية مشفوعاً برغبة أطراف إقليمية. قد تكون الإمارات، التي تحدث العنتري عبر إحدى صحفها، واحدةً من هذه الأطراف، لكنها ليست الطرف الوحيد، إذ إن هناك إسرائيل أيضاً، وبدرجات أقل، الأردن. ومع أن انهيار النفوذ الإيراني في سوريا أدى إلى خلق مكسبٍ استراتيجي–أمني لهذه الأطراف الإقليمية، إلا أن ملء الفراغ المتولّد عنه تركياً يستفز الأطراف ذاتها، وإن بدرجات متفاوتة. وتبحث كل من هذه الأطراف عن ذريعة للارتكاز عليها في تبرير مساعيها للتأثير في عملية “ولادة سوريا المستقبل”.

بعض تلك الذرائع، من قبيل “حقوق الأقليات” التي ارتكزت إليها إسرائيل، قد لا تكون مقنعة في ظل أداء الإدارة السورية الجديدة الذي لا يوحي باستهداف هذه “الأقليات”. لكن ذريعة أخرى، من قبيل الخشية من انتعاش “داعش” في ظل انشغال الإدارة الجديدة بملفات أكثر أولوية كملف “فلول النظام”، قد تصبح أكثر قدرةً على الإقناع في مداولات مسؤولي الاستخبارات والسياسة الخارجية الممثلين للقوى الإقليمية والدولية المعنية بالشأن السوري.

بدورها، تحاول تركيا نزع ذريعة “داعش” من قبضة الأطراف الإقليمية المتمترسة بها، وهو ما يتضح من دعوة وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، من بغداد، إلى شنّ معركة مشتركة للقضاء على تنظيمي “داعش” و”العمال الكردستاني” في كلٍّ من سوريا والعراق. ومن المرتقب أن يحاول الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إقناع نظيره الأميركي، دونالد ترامب، بقدرة تركيا على تولّي هذا الملف — “داعش” — في سوريا، بالارتكاز إلى قدرات تركيا العسكرية والتقنية المتقدمة، بوصفها ثاني أكبر جيش في حلف الناتو.

وبالاستعانة بالفصائل السورية المدعومة منها. لكن يبقى السؤال: إلى أيّ حدّ سيتقبّل ترامب التخلي عن قوى محلية محسوبة لسنوات على الولايات المتحدة الأميركية، بصورة تجعل واشنطن بلا تأثير مباشر على الأراضي السورية؟ وإلى من سينصت ترامب: إلى تركيا أم إلى إسرائيل وقوى إقليمية أخرى مقرّبة من واشنطن في تقرير شكل التدخل الأميركي في سوريا؟ وكيف تقيّم المنظومة الأمنية–العسكرية الأميركية جدوى الوجود المباشر في سوريا اليوم، بعد أن كانت السبب في دفع ترامب للتراجع عن الانسحاب من سوريا في ولايته الأولى؟

تبقى تلك الأسئلة معلّقة اليوم. لكن مؤشرات أولية إيجابية، من حيث تعاطي “الدولة” الأميركية مع “هيئة تحرير الشام” بعد سيطرتها على السلطة في دمشق، تجعل الكفّة تميل نسبياً لصالح القائلين بالانسحاب الأميركي من سوريا داخل الدوائر القريبة من مؤسسات صنع القرار بواشنطن. إلا أنه من المرجّح أن الإدارة الأميركية الجديدة لن تتخلى عن حلفاء واشنطن بصورة صادمة وفجائية، بل ستعمل جاهدة على حجز موقع لهؤلاء في تشكيلة الحكم المستقبلية لسوريا. وتبقى العقدة في طبيعة هذا الموقع.

فأبرز عامل للقوة في “سوريا المستقبل” سيكون في “جيش موحّد”. والجميع في الداخل والخارج يتفقون — نظرياً — على هذا المبدأ: الجيش الموحّد. لكن الخلاف هو في تفاصيل تشكيله. فـ”قسد” تطالب بكتلة خاصة بها داخله، وفصائل أخرى، منها تلك التي في الجنوب والتي في الشرق تماطل في الاندماج الفوري بغية تحسين الشروط لصالحها.

وفيما يشكّل تأسيس جيش غير متماسك، ومتعدّد الولاءات، ومخترق من أطراف خارجية، وصفة لهشاشة الدولة في “سوريا المستقبل”، فإنه في الوقت نفسه يتطلّب تحقيق الحالة الإيجابية النظيرة درجةً عاليةً من الصبر، ومقداراً كبيراً من التدرّج. فتشكيل جيش متماسك، ولاء أفراده الوحيد لقيادته التابعة بشكل حصري للدولة السورية، يحتاج إلى مسار طويل من التفاوض بين الفرقاء السوريين، يجب أن يتخلّله تقدّمٌ نوعيّ على صعيد التأسيس لعملية سياسية تحظى بمشاركة شعبية مرتفعة من مختلف المكونات والأطياف.

فهذا المدخل هو الأمثل، وهو الذي يمنح ضمانةً أكبر لانتقال سلميّ آمن، باتجاه تفكيك تدريجيّ لمختلف الذرائع والأدوار الوظيفية التي تستند إليها أيّة قوى ذات مطالب فئوية ضيّقة، تدور في فلكٍ آخر خارج فلك “دولة قوية” تمثّل عموم السوريين.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى