بكثير من الافتخار والتبجّح، تستعرض فئات واسعة من المجتمع التونسي، ونخبه المدنية والسياسة، مفخرتهم، التي يحرصون في كلّ مناسبة على تردادها. إنهم مبتكرو المجتمع المدني في سياقات عربية وإفريقية، فلهم دوماً في ذلك الأسبقية والريادة. يذهب هؤلاء في سعيهم للبرهنة على أطروحتهم تلك إلى ذكر جملة من “الحقائق التاريخية”، التي يؤبّدونها إلى حدّ الأسطرة، فقد كانت لهم أول جمعية حقوقية في العالم العربي، الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، فضلاً عن أن الاتحاد العام التونسي للشغل أول نقابة مستقلة في هذا الفضاء، والرابطة التونسية للنساء الديمقراطيات، باعتبارها كذلك أول جمعية نسائية حقوقية مستقلّة في العالم العربي أيضاً، وقد تكون هده الأحداث ثابتةً تاريخياً، ولكن يبدو أن “أسطورة الأول في كلّ شيء” ليست إلا تحايلاً على معرفة المآلات. وكأن عنفوان البدايات ونضارتها يغفران خيبة تلك المآلات وبؤسها.
ثارت، في الأيام الماضية، ثائرة المجتمع المدني على مناقشة إحدى لجان الماجستير في مؤسّسة جامعية تعود إلى جامعة الزيتونة، التي تتولّى مؤسّساتها الثلاث تدريس تخصّص الإسلاميات (أصول الدين والفقه والحضارة…)، رسالةً قدّمها أحد الطلاب تتعلّق بـ”شروط عقد النكاح في الإسلام”. صدرت عشرات البيانات من مختلف أطياف المجتمع المدني للتنديد بالأخطار المحدقة بمدنية الدولة، مطالبةً في الوقت ذاته “بوضع حدّ لقوى الردّة. والغريب أن بعض هذه البيانات أطلقتها جمعيات ترأسها وجوهٌ بارزةٌ من نخب علمية ومدنية، كانت لها صولات وجولات خلال عشرية الانتقال الديمقراطي، فكانت تفتي في كلّ شيء، ولها حقّ “الفيتو” على كلّ المشاريع المطروحة في الشأن العام، حتى إنها شلّت أيّ مبادرة للإصلاح الحقيقي.
في سياقات عديدة في تونس، كان المجتمع المدني جزءاً من الحروب الأهلية والشمولية والهيمنة وعداء الديمقراطية
حين أعلن الرئيس قيس سعيّد إجراءاته ذات ليلة (25 يوليو/ تموز 2021)، سارع قسم واسع من هذه الجمعيات، علاوة على جامعيين ومثقّفين، إلى مباركة تلك الإجراءات، التي وضعت حدّاً، حسب ادّعائها، لمسارات العبث بالدولة، وكان بعبع أخونة الدولة الخلفيةَ الضمنية التي حرّكت هؤلاء. والغريب أن بعضاً منهم “عاد” إلى رشده، وتصدّر المشهد مجدّداً للتصدّي للانقلاب (لجان الدفاع عن حرية الإعلام… إلخ)، فيما لاذ بعض آخر بالصمت. لم تصدُر أيُّ وثيقة عن هؤلاء فيها مراجعات أو نقد ذاتي. يعود بعضهم هذه المرّة من باب الدفاع عن الحرّيات والعقلانية ومدنية الدولة، إلخ، رافعين شعار “رفع اليد” عن البحث العلمي، وهم يتناسون في مفارقة عجيبة مبدأً ضرورياً في البحث الجامعي، وهو الحرّيات الأكاديمية، التي نصّت عليها مواثيق “يونسكو” (المنظمة العالمية للتربية والعلم والثقافة)، فضلاً عن دستور 2014، الموءود، الذي نصّ للمرّة الأولى في أحد بنوده على هذه القيمة الأكاديمية السامية. للجان الجامعية المتخصّصة مطلق السيادة في إدارة الشأن العلمي، فضلاً عمّا يُتناوَل من مواضيع. إنها اختصاص حصري للهيئات العلمية، ولا يمكن بأي حال أن تمارس الأطراف المدنية أو السياسية أيَّ وصاية على ما يُطرَح داخل اللجان العلمية.
الغريب أن جلّ هذه الجمعيات، التي سارعت بإصدار مواقفَ لم تكلّف نفسها عناية الاطلاع على فحوى الرسالة وما ورد فيها. استنفر هؤلاء بعضهم بعضاً من مُجرَّد إيحاءات العنوان، ليُدفَع بمطالب سياسية أيديولوجية، مثل أن ذلك يتناقض مع الدولة المدنية، أو أن دعاة الردّة يضعون أيديهم على البحث العلمي، ما يُهدّد مكاسبَ الدولة المدنية، ويشكّل خطراً على حرّية المرأة تحديداً. لم يطّلع هؤلاء على ما يُتداول حالياً في أقسام الإسلاميات بالجامعات الغربية، وهي الجامعات التي تعلمنت منذ قرون تقريباً، واستقرّت فيها مدنية الدولة. في أقسام الإسلاميات أو الأديان أو التاريخ، تُناقَش سنوياً في هذه المؤسّسات العلمية المرموقة مئات الرسائل الجامعية بمختلف درجاتها مسائل من هذا القبيل، تدور حول الزواج والردّة والجزية وأهل الذمّة، فضلاً عن طوائف وأديان ومذاهب، إلخ، وهي جزء من تحليل كيفية اشتغال العقل الإسلامي وتشكّله، وهي أيضاً نافذة تاريخية مهمة على استعادة المخيال الإسلامي، وهندسته للعلاقات الخاصّة، والعامّة، فضلاً عن تحليل تشكّل مختلف الحقول المعرفية التي صاغت معقوليته الخاصّة، والجماعات التي تأسّست على قاعدة رؤى العالم والذات والآخر.
نحتاج في تونس، قبل استعادة الديمقراطية، أن نخرج من تأليه المجتمع المدني وسطوته
لا أحد مخوّل بتقديم جدّة المواضيع وعلميّتها سوى أهل الاختصاص من الجماعات العلمية، وكلّ تدخّل من خارج هذه الهيئات العلمية يُعدّ وصايةً على العقل الأكاديمي، والجامعي عموماً. تتشكّل دورياً في تونس هيئات علمية توكل إليها مهمّة إصلاح مختلف مراحل التعليم العالي، بدءاً من الإجازة، وصولاً إلى دراسات الدكتوراه، وهي هيئات تمزج بين آلية الانتخاب والتعيين، وتوكل إليها حرّية تصوّر مقرّرات التكوين الجامعي، فضلاً عن أولويات البحث العلمي. تسهر على هذه المهمة إدارات مختلفة على غرار التجديد الجامعي والاعتماد. تصدر تلك المواقف المتباكية على مدنية الدولة، وهي التي ظلّت في جلّها متواطئةً مع مسارات تراجع الفضاء العمومي، وشلّ النقاش العام والهيمنة على السلط، واحتكارها، ما يجعل مدنية الدولة مطلباً قبل أن تكون مكسباً نخاف عليه.
في أحد المراكز البحثية الفرنسية الألمانية المرموقة، صدر منذ سنوات قليلة عمل ضخم عن شخصية أبو محمد الجولاني، والأرجح أنه لو كان مقرّه في تونس لحُوصِر ودُعي إلى إغلاقه بدعوى حماية مدنية الدولة، والتصدّي لأعداء العلم.
نحتاج في تونس، قبل استعادة الديمقراطية، أن نخرج من تأليه المجتمع المدني وسطوته علينا، ففي سياقات عديدة كان المجتمع المدني جزءاً من الحروب الأهلية والشمولية والهيمنة وعداء الديمقراطية، حتى في تعبيراتها البسيطة: التعدّد والاختلاف. الحرّيات الأكاديمية مقدّمة في هذه الحالة لـ”كهنة المجتمع المدني وفتاويهم”.
المصدر: العربي الجديد