ما كان يغيب عن الكتب المدرسية والدراسات الجامعية وحتى الأبحاث العلمية، حول مرفأ بيروت، العثماني الأصل الفرنسي النشأة، هو أن لبنان “دولة ميناء”، تشكلت حول أحواض السفن وأهراءات القمح وعنابر البضائع، التي كانت تخدم ذلك الكيان السياسي الجديد، وتؤسس على التجارة المطلقة الحرية، لظهور الارستقراطية اللبنانية الأولى، مثلما تمهد لظهور الطبقة البروليتارية اللبنانية الأولى، وما بينهما من وسطاء ومخلصين، من أحزاب ووكالات تجارية، من جامعات ومدارس وصحف ومقاه وأندية ليلية.
كان مرفأ بيروت ، حتى لحظة الكارثة، فصلاً رئيسياً في كتاب تاريخ لبنان، الذي يمكن الزعم أنه ما كان ليرسم على الخرائط العالمية لولا ذلك المرسى الإستراتيجي، الذي لم يكن منذ البداية مجرد منشأة تجارية واقتصادية مهمة، بل كان شرياناً حيوياً، لا يعتمد فقط على ضخ الحياة في محيطه اللبناني القريب، بقدر كان يخدم سوريا قبل بناء مرفأ اللاذقية، وفلسطين قبل إنشاء مرفأ حيفا، وصولا الى العراق وبقية دول الخليج العربي، التي كانت معظم وارداتها وحتى مطلع سبعينات القرن الماضي تمر عبر العاصمة اللبنانية .
في جميع الحروب والأزمات التي شهدها لبنان، طوال الأعوام المئة الماضية على تأسيسه، كان مرفأ بيروت مؤشراً رئيسياً للنصر او الهزيمة. كانت الأفكار والنظريات، ولا تزال، رائجة حول التآمر الإسرائيلي على ذلك الميناء والعمل على تعطيله، وحول التنافس السوري معه والسعي الى استبدال دوره وتعويضه.. مثلما كانت الصراعات السياسية والعسكرية المحلية قبل الحرب الأهلية وخلالها، تبدأ في ذلك الميناء وتنتهي به، حتى أستعاد في العقود الثلاثة الماضية الكثير من مكانته الاقتصادية والتجارية وتالياً الاجتماعية.
لا دليل حتى الآن على الأقل، على أن تدمير المرفأ ومحيطه هو استكمال للتآمر أو التنافس الخارجي..أو تتمة للصراع الإقليمي والدولي على لبنان. لكن المؤكد الآن أن الدولة اللبنانية فقدت في ذلك التفجير الكثير من تاريخها ومن دورها، ومن مستقبلها المبني على مركزية اقتصادية لا تعوض، لا سيما وأن مرفأي طرابلس وصيدا المحتملَين، لم يتحولا الى ميناءين رديفين، وما زالا في مرحلة البناء الأولية، التي تسد الفراغ والخلل المؤقت ولا توسع معادلات التجارة الخارجية المستندة إلى معايير طائفية موروثة.
الضربة الموجعة التي تلقتها الدولة اللبنانية، أكبر بكثير من الضربة التي تعرضت لها السلطة ومؤسساتها السياسية والعسكرية والأمنية. التفجير الرهيب أصاب من جهة جسداً تاريخياً يتمتع بشرعية دولية لا شك فيها، كانت ولا تزال الحصن الأخير للبنان، لكنه من جهة أخرى ضرب في سلطة تعاني من فراغ سياسي وخلل اقتصادي وعيب إداري لم يسبق له مثيل حتى في ذروة الحرب الأهلية.
من ركام مرفأ بيروت، يظهر الآن أنه لولا تلك الشرعية الدولية التي ستضخ المال والغذاء والدواء وتوفر بعض الحماية والرعاية للبنانيين، وللسلطة، لكان يمكن القول إن لبنان القديم انتهى، بأنه لم يعد “دولة ميناء” مهمة ظهرت على السواحل الشرقية للبحر المتوسط، بل مجرد شركة مساهمة مفلسة، يتنازع المساهمون أرصدتها وودائعها وممتلكاتها…أو جمعية أهلية تضم موظفين وأُجراء عند قطاع خاص ناجح، متفوق، ومتفلت من كل قيد.
لن تعيد تلك الشرعية الدولية المتجددة الآن بناء ما فات، بل هي ستعوض الآن عن الخسائر والأضرار، التي لولا الحرج والعرف لكانت الدول العربية والأجنبية قد وجهتها إلى القطاع الخاص مباشرة.. لكنها ستنتهز الفرصة لكي توبخ السلطة مرة أخرى على فسادها وسوء إدارتها وعجزها عن وقف الانهيار التام.
ثمة أمل، بألا يكتفي الأشقاء العرب والأصدقاء الأجانب بنهر السلطة، بل بأن يفرضوا عليها خريطة طريق سياسية واقتصادية للإنقاذ، حتى ولو من خلال مؤتمر عربي_دولي واسع، على غرار المؤتمرات العديدة، التي أنهت الكثير من الحروب وعالجت الكثير من الأزمات اللبنانية، وموّلت فترات الازدهار الخاطفة من عمر الاقتصاد اللبناني..
عدا ذلك فإن ركام المرفأ ومحيطه يمكن أن يتحول إلى معلم سياحي جديد من معالم الخراب اللبناني العام. فالرهان على وعي السلطة خاسرٌ سلفاً، مثله مثل الرهان على نضج الجمهور اللبناني، الذي يملأ صفحات التواصل الاجتماعي بالردح، ويترك الساحات والشوارع فارغة.. متأملاً مواكب الجنازات التي لم تتوقف منذ مئة عام.
المصدر: المدن