لم يكن ليل الثامن من شهر كانون الأول عام 2024 كباقي أيام طرابلس. لقد شهد أهالي هذه المدينة اليوم الأخير من حكم آل الأسد الديكتاتوري في سوريا، أو لنقل في سوريا ولبنان، زوال شبح كان يؤرِّق أبناء المدينة دوماً. تاريخ الصراع بين طرابلس وآل الأسد أقدم من الثورة السورية التي بدأت أوائل سنة 2011. ما زالت شوارع المدينة، وبالتحديد الشعبية منها، تحفظ ذكرى المجازر التي ارتكبتها قوات النظام في أوائل الثمانينيات، وما زالت صور القادة الشعبيين تزين الجدران التي لم تمحُ عنها أربعة عقود من الزمن آثار الرصاص. وكأن طرابلس رفضت أن تفكر في أي عملية نهوض قبل سقوط آل الأسد، كان أبناؤها على قناعةٍ تامة بأن العائلة الحاكمة في دمشق لن تترك تلك المدينة، وهذا لا يبتعد عن الحقيقة، إذ إن آخر جولة للقتال فيها لم يمض عليها عشر سنوات، وآخر تفجير ما زالت ذكراه عالقة في الأذهان.
يمكننا تقسيم تاريخ المدينة الحديث، التي كانت من أهم الحواضر في المشرق العربي خلال الألف عام الماضية، إلى أربع مراحل. تبدأ المرحلة الأولى مع إعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920، حين رفضت زعامات المدينة الانضواء تحت لواء هذا الكيان والانخراط في العملية السياسية. أما المرحلة الثانية فتمتد من منتصف الثلاثينيات، عندما تولى أول زعيم طرابلسي، وهو خير الدين الأحدب، رئاسة مجلس الوزراء، وبدأت المشاركة السياسية الفعلية للمدينة وأبنائها في العمل السياسي، مرورًا بمشاركة الزعيم عبد الحميد كرامي في النضال من أجل الاستقلال، وصولاً إلى ثورة شمعون عام 1958. أما المرحلة الثالثة فتمتد من ثورة شمعون وإعلان الوحدة المصرية السورية (1958-1961) حتى سنة 1982، تاريخ إعلان حركة التوحيد الإسلامية، ثم دخول القوات السورية إلى المدينة بشكل كامل سنة 1985، والتي انتهت بخروج الجيش السوري من كل الأراضي اللبنانية سنة 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. أما المرحلة الأخيرة فتبدأ مع الثورة السورية وتنتهي بدخول الثوار إلى حمص في نهاية سنة 2024.
في إحدى الزيارات التي قام بها وفد من الزعماء المسلمين إلى مصر أثناء الوحدة السورية المصرية، قال الزعيم رشيد كرامي للرئيس المصري جمال عبد الناصر: “إننا في لبنان لا نحتمل أن يتزعزع كياننا.” جاء هذا الموقف في ذروة الانقسام اللبناني والدعوات الوحدوية في الشارع اللبناني، خاصة الشارع القومي، وكان يعكس الوعي لدى الزعيم الطرابلسي بأن الكيان الذي يُدعى لبنان قد طور هوية مختلفة، رغم تعاطفه مع القضايا العربية. وجاء هذا الموقف أيضًا كإجابة حاسمة عن التساؤل الذي طرحه أبناء طرابلس حول هويتهم، خاصة بعد الصدمة التي عاشوها بزوال الإمبراطورية العثمانية، حيث لم يجدوا تبريرًا لهويتهم في ظل النظام القائم، مثلهم مثل كل الشعوب المسلمة التي عانت من صدمة تاريخية بزوال الإمبراطورية العثمانية التي كانت تُعتبر “خلافة إسلامية”.
لكن انسجام الطرابلسيين مع هويتهم اللبنانية لم يلقَ تجاوبًا من النخب السياسية، مما أدى إلى إقصاء المدينة عن الخريطة التنموية التي كانت تُرسم في دوائر القرار في بيروت. وعانت المدينة من أزمة نزوح ريفي كبير من مناطق الضنية والمنية وعكار، مما خلق على أطرافها أحزمة بؤس أسست لتاريخ جديد في المدينة، حيث انتقل مركز الأحداث إلى تلك الأحزمة التي شكلت مع المناطق الشعبية بيئة خصبة للتفاعل مع القضايا التنموية والقومية والمطلبية، وأصبحت طرابلس “طرابلسين”: طرابلس الشرقية التي تمتد من ساحة النور (ساحة الله كما يسمونها في اللغة المحكية) والتي كانت في السابق يوجد بها تمثال الزعيم عبد الحميد كرامي إلى البحر، وطرابلس الغربية التي تمتد من الساحة المذكورة وحتى أحياء التبانة والمنكوبين والأسواق الشعبية وغيرها من الأحياء الفقيرة أو التي أصبحت فقيرة بفعل الأيام وتراكم الحروب.
كان ازدياد صعوبة الحالة الاقتصادية لأحزمة البؤس بعد طوفان نهر أبي علي في منتصف الخمسينيات، وقبيل بداية الحرب الأهلية اللبنانية، بموازاة نمو حالة المقاومة الفلسطينية في لبنان، يضعف انتماء أبناء هذه المناطق للدولة والوطن. إن أحد أهم تعريفات المواطنة هو الإحساس بملكية المكان. لكن في تلك الأحياء التي تغيب عنها الدولة وتغيب عنها السلطة المحلية التي تحتكر التنمية في طرابلس لأبناء المدينة وليس لأبناء الأرياف، ويزداد فيها غياب الخدمات وقدرة “الفتوات” على خلق نوع من الإدارة الخاصة لكل حي، يصبح من الصعب الحديث عن انتماء لهذا “اللبنان” الذي كانوا يرونه بلدًا تبدأ حدوده من منطقة المدفون في بيروت.
وجزء من ذلك التهميش الذي تعيشه طرابلس والشمال كان –بحسب رؤية الطرابلسيين– وبالتحديد منذ فترة السبعينيات، والإحساس بالعزلة، هو وجود نظام أقلوي في سوريا. كانت الطوائف اللبنانية، ومنها بعض المكونات في طرابلس، تستقوي بأنظمة أخرى، لكن الغالبية العظمى في طرابلس كانت تشعر بالمظلومية، المظلومية التنموية والسياسية على حد سواء. هذا الشعور الجمعي خلق حالة من الرفض تجاه دخول القوات السورية إلى لبنان في منتصف السبعينيات، وإلى طرابلس بالتحديد في أوائل الثمانينيات. كانت حالة الرفض تلك التي دفعت أبناء المدينة إلى إعلان حرب خاسرة سلفًا، حرب مجموعات مسلحة مدعومة من منظمة التحرير بوجه الجيش السوري الذي كان يملك سلاحًا ثقيلًا وطائرات وقدرة على سحق كل من يواجهه.
وكان أن بقي ذلك النظام بجيشه ومخابراته في طرابلس مدة عشرين عامًا، قتل فيها آلاف من أبناء المدينة على يديه، واختفى مئات، وهاجر عدد لا يمكن حصره، إلى أن جاء عام 2005 بعد اغتيال الرئيس الحريري، فنزل الشماليون والطرابلسيون إلى بيروت وملؤوا ساحاتها للمطالبة بخروج الجيش السوري الذي كان يمتلك الحرية بممارساته في طرابلس أكثر من أي مدينة أخرى. لدرجة أن الأحياء التي كانت توجد فيها مقارّ المخابرات ما زالت أحياء تتملك أبناء المدينة رهبة عند دخولها.
كان لخروج الجيش السوري من لبنان ومخابراته أن أعاد للطرابلسيين الإيمان بالهوية اللبنانية وبالشعار الذي أطلقه سعد الحريري “لبنان أولاً”، وتوطدت أواصر التعلق بالكيان الذي تشكله الأحزاب السياسية اللبنانية التي استطاعت إراحة طرابلس من الجيش السوري ومخابراته. لكن الأحداث تتابعت بشكل سريع، فحصلت معركة نهر البارد سنة 2007 على بعد ستة كيلومترات من طرابلس، وبدا أن سوريا ما زالت لها اليد الطولى بالتأثير على المدينة. كانت صفة الإرهاب قد بدأت تُطلق في وسائل الإعلام الرسمي السوري والمساند له على المدينة بأجمعها وليس على أشخاص منها فحسب. فعُزلت المدينة مرة أخرى بعد أن قالت منذ وقت قصير “لبنان أولاً”. في تلك اللحظة كانت طرابلس ترغب في لبنان، ولبنان يرغب عنها. أصبحت المدينة بحسب وسائل إعلام لبنانية “قندهار ثانية”، و”سلام أباد”، وصُوِّر أبناؤها على أنهم جميعًا ملتحون قد جاؤوا من جبال تورا بورا.
وبدأت معركة استنزاف للمدينة منذ 2008 بعد أحداث 7 من أيار، بين جبل محسن ذي الأكثرية العلوية وباب التبانة ذي الأكثرية السنية. كان الطرفان في المدينة لا يرغبان في إثارة موجة القتل الطويلة تلك. لكن أيدي النظام السوري كانت قادرة على دعم الحزب العربي الديمقراطي الذي يتزعمه علي عيد، فبقيت المدينة رهينة القتل بدم بارد حتى سنة 2014.
قبل ذلك بقليل، ومع اندلاع الثورة السورية، شعر الطرابلسيون أن المعركة معركتهم. بدأت المظاهرات المؤيدة للثورة، وسرعان ما بدأت تصل صور المجازر التي ترتكب في سوريا، فاندفع عدد كبير من الشباب للتسلل نحو سوريا والمشاركة في القتال ضد النظام. حينها هدد بعض الإعلاميين المحسوبين على النظام بإعادة احتلال طرابلس. وفيما استمرت الثورة السورية بين مد وجزر، بقيت طرابلس تترقب الأحداث السورية، إلى حين أُعلن عن سقوط نظام بشار الأسد.
اليوم هناك حالة من الارتياح لدى العقل الجمعي الطرابلسي تجاه التحول التاريخي في سوريا. لا يستطيع أبناء المدينة التعبير عن عمق ذلك التحول. لكنهم يستطيعون الآن بعد مئة عام من الإعلان عن دولة لبنان الكبير الإجابة عن العديد من الأسئلة. هم يؤمنون بنهائية الكيان. يؤمنون بـ”لبنان أولاً”. يؤمنون بالقضية الفلسطينية التي حملوا لأجلها السلاح مع منظمة التحرير. ويؤمنون بأن طرابلس تنفست أخيرًا. لكن جملة من الأسئلة وجب على ساسة طرابلس الإجابة عنها. ها هي المدينة تبلور هويتها الكاملة. مدينة لبنانية عربية تعتز بلبنانيتها وبثقافتها، وتنفض عنها تهم الإرهاب والتطرف والتخلف، وهي تستطيع بما لها من مقومات أن تكون رافعة للبنان الجديد الذي بدأ الحديث عنه. لقد أجاب الطرابلسيون عن كل الأسئلة التي كانت تُوجَّه إليهم، وحان وقتهم الآن لتوجيه الأسئلة. ماذا تريدون من طرابلس في الغد؟ ما دورها؟ وهل ستنتهي مئة عام من العزلة والأسئلة؟
المصدر: تلفزيون سوريا