يسارع الإعلام العربي ومواقع التواصل الاجتماعي المعادية لانتصار السوريين، أو تلك التي تديرها مجموعات من الفلول، أو من القوى الإقليمية التي لا مصلحة لها باستقرار سوريا ووحدة شعبها وأراضيها، إلى تلقف كل خبر أو صورة أو شريط بث مصور يثير جدلا في أوساط السوريين، يطمئن ويفرح بعضهم ويبث الذعر والقلق لدى بعضهم الآخر، من انتهاكات يقوم بها بعض العناصر من الهيئة أو من الفصائل المسلحة الجهادية التي تنتشر على مساحة الأرض السورية، أو تلك التصرفات التي يقوم بها أفراد أو مجموعات حزبية معينة تريد فرض نمط معين من السلوك علي كل السوريين، كالحركات الدعوية التي يقوم بها البعض في مناطق المسيحين وباقي الأقليات، أو ملصقات تنتشر في شوارع المدن السورية عن شكل لباس المرأة، أو دخول بعض الملثمين المسلحين إلى بعض المقاهي التي يتم فيها عزف موسيقا ويقومون بتكسير الآلات الموسيقية والتهديد بالسلاح لإغلاق المقاهي وتفريق المجتمعين والعراك معهم والإساءة اللفظية لهم. وبطبيعة الحال تبقى الانتهاكات في العمليات العسكرية هي الأكثر تداولا وإثارة للجدل، مثلها مثل عمليات الخطف والقتل التي تنتشر في مناطق التوتر الطائفي مثل حمص وريفها الغربي والشرقي وريف حماة وبعض مناطق الساحل. وهي الأكثر تداولا على مواقع التواصل وفي الإعلام، علما أن حوادث مشابهة تجري في أماكن أخرى لا يوجد فيها احتكاك طائفي، بل هي ذات لون واحد، لكنها لا تأخذ نصيبها من التداول الإعلامي لأنها، ببساطة، لا تحقق غاية التحريض التي يسعى إليها كثر ممن يسعون لبقاء سوريا متوترة وقيد الحرب الأهلية.
ما يهم هو وضع سوريا في الوقت الحالي وإيجاد طرق لردم الفجوة الكبيرة التي أحدثها نظام الإجرام السابق بين السوريين.
تأخذ المسألة الطائفية اليوم الوقت الأكبر من أحاديث السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى لا يكاد يخلو سوري من تعليقات تتناول المسألة الطائفية، دائما ثمة بعد طائفي في التعليقات الملحقة بأي خبر، ودائما سيلاحظ المتابع أن ثمة توترا يكاد يصل حد الانفجار في الأحاديث بين السوريين حين يتعلق الأمر بخبر انتهاك ما حدث في منطقة من مناطق التوتر أو الاحتكاك. وهو بكل حال أمر مفهوم جدا، فالتغيير الذي حدث كان مفاجئا وصادما للكثير ممن كانوا يعتقدون أن الأسد باق للأبد، لم يستطيعوا حتى اللحظة فهم ما حدث واستيعابه، واستيعاب أن من قدموا أولادهم ضحايا لأجله قد فر هاربا من دون أن يوجه إليهم بكلمة واحدة لا قبل فراره ولا بعده. ليس الأمر، كما يحلو للبعض القول والتكرار، أنهم فقدوا امتيازاتهم، ففي الحقيقة تلك الامتيازات لم تكن سوى أوهام في أذهان من يعتقدونها من طرفي الصراع، فلا فقراء العلويين كانوا يتمتعون بأي امتياز في دولة سوريا الأسد، ولا من يعتقدون ذلك من خارج العلويين يملكون أدلة مادية على تلك الامتيازات سوى تجنيد شباب العلويين في الجيش والأمن، والذي جاء نتيجة إهمال تنمية الريف العلوي ليضطر شبابه إلى الالتحاق بسلكي الجيش والأمن لضمان لقمة عيش متوفرة. على كل حال هذا حديث طويل وجرى خوضه سابقا على غير منصة وموقع، وتحدث به باحثون ومختصون وفندوا أسبابه ونتائجه بشكل مفصل.
في المقابل على من يعتبرون أنفسهم أقليات البدء بالتصرف كمواطنين، والاقتناع أن النظام البائد قد انتهى وأن مرحلة جديدة كليا قد بدأت في سوريا، وأن مصلحتهم كسوريين تكمن في الانخراط ضمن المجتمع والتصرف ضمن سلوكيات المواطنة التي لا شيء يكفل لهم حقوقهم غيرها.
الآن، ما يهم هو وضع سوريا في الوقت الحالي ووضع طوائفها وشعبها. وإيجاد طرق لردم الفجوة الكبيرة التي أحدثها نظام الإجرام السابق بين السوريين. والحال إن إنكار الانتهاكات الحالية أو إحالتها إلى حالات فردية أو تداول نظرية أن من يقوم بهذه الأفعال هم ممن ارتكب بهم (العلويون) مجازر ويحق لهم الانتقام، هو إسهام في إبقاء الفوضى الأمنية التي تطيح بأية رغبة أو محاولة لإعادة بناء سوريا وإعادة ثقة المجتمع الدولي بها. بالتأكيد هناك مرتكبون للمجازر من المدنيين والعسكريين والأمنيين، تعميم ذلك على بيئة كاملة لا يختلف عن تعميم نظام الأسد صفة الإرهاب على كل البيئات الحاضنة للثورة ومعاقبتها جميعا بالقصف والحصار والقتل والاعتقال. كان ظلمه معمم حتى على المتعاطفين الصامتين، فهل نريد لسوريا الجديدة أن تكون ظالمة وأن تنشأ فيها مظلوميات جديدة سوف تنتج بعد حين مظلوميات أخرى تتربى وتنشأ في قلب المجتمع وتتحول إلى قنابل موقتة ستنفجر في لحظة ما؟ هل تحتاج سوريا فعلا المزيد من الدماء ليتم إنقاذها؟ هذا سؤال ينبغي أن يطرحه كل من تعنيه سوريا وحاضرها ومستقبلها وينبغي أن تتم الإجابة عليه بأسرع وقت. فإن كان الجواب بنعم سوريا تحتاج المزيد من الدم فليسارع السوريون إذاً إلى تجديد الحرب الأهلية علها تنتهي في أسرع وقت ممكن، فثمة أجيال سورية جديدة تريد أن تعيش في بلد خال من العنف والدم. وإذا كان الجواب بلا، سوريا اكتفت من الدم إذاً ليسارع الجميع إلى إيجاد الحلول العملية لوقف هذا التسارع في الخطوات نحو المزيد من الخراب، وتحقيق الأمان الذي يكفل حماية الأبرياء من أية حالة انتقام، ويساهم في تعزيز السلم الأهلي بين السوريين، ويضع حدا لمغامرات الفلول في العبث بالأمن، ويوقف الإعلام المحرض عن بث أخبار تزيد في حالة الاحتقان بين السوريين، سواء بين الطوائف أو بين الإثنيات في سوريا.
والحال أنه لا يمكن للسلم الأهلي أن يتحقق فعلا من دون العدالة الانتقالية التي تضمن محاسبة كل المرتكبين والمجرمين وتنقذ الأبرياء من العقاب الجماعي. والعدالة الانتقالية يلزمها قوانين ناظمة، وقضاة غير مسيسين وغير مؤدلجين، وللأسف فإن حكومة تصريف الأعمال الحالية ليست قادرة على القيام بهذه الخطوة طالما هي مصرة على لون واحد في القضاء، لا يمتلك ممثلوه أي مؤهل علمي وقانوني للبدء بعملية المحاسبة والعدالة الانتقالية، وقد تكون هذه أول وأكبر المعضلات في تحقيق العدالة. والسلم الأهلي، فكيف سيثق السوريون بمن لا ينتمون للسلك القضائي في تحقيق عدالة انتقالية تعالج ما تم وراثته من انتهاكات لحقوق الإنسان (وبعض المعينين لديهم سجل في هذه الانتهاكات أصلا)، وتضمن الملاحقات القضائية وتقوم بإصلاح المؤسسات القضائية وتقوي سيادة القانون وتسن القوانين المحققة لذلك؟
كما أن السلم الأهلي لا يمكن تحقيقه والسلاح تحمله عناصر تنتمي لفصائل لا علاقة لها بهيئة تحرير الشام التي تمسك السلطة اليوم، وتقتحم البيوت وتسرق وتخطف وتقتل وترتكب كل أنواع الانتهاكات باسم الهيئة، كيف سيثق أي سوري يتعرض يوميا للاتهام بأنه مجرم لمجرد انتمائه لطائفة معينة بهذه السلطة التي تطالبه بتسليم سلاحه وتترك السلاح بيد جهاديين منهم غرباء ولا ينتمون لسوريا ويعاقبون السوريين لمجرد اختلافهم عنهم؟ كما أن السلم الأهلي لا يمكن أن يتحقق بالخطاب التحريضي الذي يردده بعض الإعلاميين الجدد الذين يزورون قصر الشعب باستمرار يعطون الإيحاء بأن ما يقولونه هو لسان حال الهيئة وقائدها.
لا يمكن للسلم الأهلي أن يتحقق فعلا من دون العدالة الانتقالية التي تضمن محاسبة كل المرتكبين والمجرمين وتنقذ الأبرياء من العقاب الجماعي
السلطة الحاكمة تتحمل مسؤولية ضمان الأمن خصوصا حين تردد دائما أمام المجتمع الدولي أنها ستكون عادلة مع الجميع وأنها لن تسمح بحالات الانتقام وأنها تعامل السوريين جميعهم بوصفهم مواطنين. هذا الخطاب الموجه للغرب ينبغي أن يوجه للداخل ليبدأ الجميع بتطبيقه. لكن في المقابل على من يعتبرون أنفسهم أقليات البدء بالتصرف كمواطنين، والاقتناع أن النظام البائد قد انتهى وأن مرحلة جديدة كليا قد بدأت في سوريا، وأن مصلحتهم كسوريين تكمن في الانخراط ضمن المجتمع والتصرف ضمن سلوكيات المواطنة التي لا شيء يكفل لهم حقوقهم غيرها. وعليهم إدراك أن الحقوق يلزم قبالتها واجبات تتمثل أولا في الاعتراف بالخطأ لمن أخطأ وتسليم المجرمين المتستر عليهم، والكف عن الانجرار وراء المحرضين ومثيري الفتن سواء من كانوا يعيشون بينهم أو من يحرضون من خارج سوريا. ينبغي على هؤلاء، لاسيما العلويين، التقاط أنفاسهم والتفكير بكل ما جرى خلال عقد ونصف مضى، والتقدم خطوات باتجاه إخوتهم في الوطن الذين تعالى معظمهم على جراحهم وشدوا عليها في سبيل استعادة سوريا وإعادة بنائها وبناء مجتمع جديد خال من العنف. من واجب العلويين اليوم الإثبات للجميع بأنهم ينتمون لسوريا الوطن لا لطائفة تبدو كما لو أنها مذعورة مما يحدث. والانتماء للوطن لا يعني التخلي عن خصوصيتهم الثقافية وعادات حياتهم كما يهول المحرضون، فهذه الخصوصية وغيرها من خصوصيات المكونات السورية هي ما يشكل مجتمعا متنوعا وحيويا وثريا، لكن التعامل مع المسائل الوطنية من منطق الطائفة سوف يجلب المزيد من الدمار لهذه الطائفة أولا وللمجتمع ثانيا، ويجب أن تكون دروس الماضي ماثلة الآن أمام الجميع.
الأمن المجتمعي والسلم الأهلي يجب أن يكون اليوم خطا أحمر، ويجب التعامل معه بحزم شديد من دون أي تهاون، خاصة من قبل السلطة التي تمسك زمام الأمور اليوم، وأي تأجيل أو تهاون في حل الإشكالات التي يطرحها السوريون، كل السوريين، التي تعيق تحقيق السلم الأهلي سوف يجر سوريا إلى ما لا تحمد عقباه، لا شيء يمكنه أن يحمي سوريا اليوم سوى السلم الأهلي الذي من شروط تحققه إيمان الجميع به: سلطة متحكمة ونخب سياسية وفكرية ومجموعات بشرية عليها أن تبدأ التصرف بوصفها شعبا متنوعا لكنه موحد. هذا ما يجب أن يحدث في الحال وليتوقف الجميع عن العبث بأمن سوريا.
المصدر: تلفزيون سوريا