ما هو مقياس النصر في غزّة؟

علي أنزولا

حتى قبل أن يدخل وقف إطلاق النار في غزّة حيز التنفيذ اندلعت حرب أخرى، لا تقل عنفاً لفظياً عن الحرب التي وضعت أوزارها للتو، على وسائط التواصل الاجتماعي وعلى شاشات بعض القنوات العربية، بين من يعتبرون ما جرى ويجري انتصاراً للمقاومة وللشعب الفلسطيني ومن ينظرون إليه ثاني نكبة تحلّ بهذا الشعب بعد احتلال أرضه التاريخية عام 1948. ولن ينتهي هذا النقاش، رغم أن وقته ما زال مبكّراً، لأن ما توقف هو المجازر التي كانت ترتكبها إسرائيل، أما الحرب التي بدأت منذ وجد الكيان الصهيوني في المنطقة فما زالت مستمرّة، والعدوان الحالي على أهالي غزّة هو أحدث فصولها، وليس مستبعداً أن يُستأنف بعد وقف إطلاق النار المؤقت الذي ينتهي بعد ستة أسابيع، وربما قبل ذلك في حال خرق إسرائيل الاتفاق، كما دأبت دائماً، بما أنه لا عهد لساستها.

بعيداً عن الانفعالات والمشاعر، لا يُقاس الوضع بحسابات الخسارة والربح، لأن الحرب التي يخوضها الفلسطينيون منذ احتلال أرضهم هي حرب وجود أولاً وأخيراً، إما أن يكونوا أو لا يكونوا. والعدوان الإسرائيلي على شعوب المنطقة مند زُرع هذا الكيان داخلها هو من أجل إثبات وجوده وفرض شرعيته المشكوك فيها. ويتعلق الأمر بصراع إرادات، إرادة الاحتلال فرض وجوده وسيطرته وتفوقه، وإرادة الشعب الفلسطيني للعيش بكرامة وحرية فوق أرضه وتقرير مصيره بنفسه. ولنا في التاريخين، القريب والبعيد، أمثلة كثيرة عن قوى استعمارية ظالمة ارتكبت المجازر الفظيعة من أجل تحقيق أطماعها وانتهت بالاندحار والفشل الذريع. وفي المقابل، كل الشعوب التي ناضلت من أجل حريتها وكرامتها وقدمت التضحيات الجسيمة والأثمان الكبيرة انتصرت إرادتها في نهاية المطاف، من التجربة الجزائرية إلى التجربة الفيتنامية، وانتهاء بالملحمة الفلسطينية المستمرّة وسوف تنتهي بالنصر، طال الزمن أو قصر.

إسرائيل، وبالرغم من كل الدعم الأميركي والغربي الذي تلقته وما زالت، لم تنتصر ولن تنتصر

حشدت الولايات المتحدة في حرب فيتنام ثلاثة ملايين جندي أميركي، واستعملت كل الوسائل المفرطة في القتل والتدمير، وألقت أطناناً من القنابل تُعادل ضعف ما ألقي خلال الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك النابالم الرهيب، والأسلحة الكيميائية، والمواد السامّة التي كانت تذيب أوراق الشجر، ومع ذلك تعرّضت أعظم قوة عسكرية في العالم لأشد هزيمة مرارة في تاريخها. وما يتذكّره التاريخ اليوم هو الجرائم الأميركية الفظيعة التي وثّقتها السينما الأميركية في أفلام خالدة. وفي المقابل، ما زالت كل شعوب الأرض الحرّة تقدّر شجاعة الفيتكونغ وعنادهم، وصبر (ومقاومة) الفيتناميين الذين أصبح زعيمهم الروحي هو تشي مينه رمزاً للنضال والصمود في مختلف أنحاء العالم، بينما لا أحد يتذكّر جنرالات أميركا وقادتها العسكريين إلا مجرمي حرب مجهولي الهوية. لقد دفع الفيتناميون ثمناً باهظًا لنصرهم، أكثر من 2.5 مليون قتيل، وآلاف المجتمعات المدمّرة، والآثار الفتّاكة طويلة الأمد التي لا تزال تقتل.

كانت حرب فيتنام من أكثر الحروب دموية في التاريخ الحديث، ولكن كتب التاريخ تتذكّرها أعظم هزيمة لأميركا في حرب خاضتها. كان هو تشي مينه يقول للأميركيين “يمكنكم قتل عشرة من رجالي مقابل كل رجل نقتله منكم. ولكن حتى لو فعلتم ذلك، سوف تخسرون وسوف نفوز نحن”. وفي نهاية المطاف، تحققت نبوءة الزعيم التاريخي الفيتنامي الكاريزمي الذي كان يلقّب بـ”العم هو”، رغم أنه لم يرها قط، إذ توفي على سريره بسبب مرضه، عن عمر 79 عاماً في خضم الحرب.

إرادة الشعب الفلسطيني في غزّة وعلى كل أرض فلسطين لم تنهزم، والمقاومة الفلسطينية لم تستسلم رغم كل الضربات التي تلقّتها

ما صنعته المقاومة الفلسطينية في غزّة من بطولات خارقة لا يقل عن بطولات “الفيتكونغ”. وما أظهره الفلسطينيون بصمودهم الأسطوري أكثر من 15 شهرا في الجحيم، من صبر وتصميم ومقاومة، لا يقلّ عما بذله الفيتناميون من أجل نصرة مقاومتهم وتحقيق استقلالهم، وشجاعة (وذكاء) قائد المقاومة الفلسطينية، يحيى السنوار، الذي استشهد وهو يقاتل عدوّه، صنعت منه أيقونة لرجال المقاومة الذين خلّدهم التاريخ. أما اللغزان، محمّد الضيف ومحمّد السنوار، فما زالا يسطّران الملاحم التي نعيشها اليوم، وجديدها أخيراً تلك التي شهدناها يوم تسليم الأسيرات الإسرائيليات عندما خرج رجالهما في صورة تحدٍّ واستعراض تؤكّد أن المقاومة مستمرّة ولن تموت.

لا يقاس مقياس النصر في الحروب الوجودية بحساب الخسارة والربح، وإنما بالبقاء والاستمرار، والثبات على المبدأ وعدم الاستسلام للذل والهوان. والمقاومة الفلسطينية لم ترفع الراية البيضاء. وبالرغم من الجراح والآلام وشلال الدم المسكوب في غزّة، ما زالت تفاوض وتفرض شروطها على المحتل وحماته في أميركا والغرب. صحيح أن المقاومة لم تنتصر، لأن طريق النصر أمامها ما زال طويلاً، لكنها في الآن نفسه لم تنهزم. وفي المقابل، إسرائيل، وبالرغم من كل الدعم الأميركي والغربي الذي تلقته وما زالت، لم تنتصر ولن تنتصر، لأنها تحارب إرادة شعبٍ لا تنكسر ولا تنهزم، وهي التي جرّبت صموده طوال العقود السبعة الماضية.

المقاومة الفلسطينية، سواء كان اسمها “حماس” أو “الجهاد الإسلامي” أو أي مسمّى يظهر غداً، فسوف تبقى مهما تلقت من ضربات من الأعداء والأشقاء

صحيح أن الثمن كان باهظاً؛ أكثر من 160 ألفاً ما بين شهيد وجرح ومفقود، أغلبهم من النساء والأطفال، وتدمير قطاع غزة بالكامل، لكن إرادة الشعب الفلسطيني في غزة وعلى كل أرض فلسطين لم تنهزم، والمقاومة الفلسطينية لم تستسلم رغم كل الضربات التي تلقتها والقادة الذين فقدتهم. وعلى الطرف الآخر فإن إسرائيل اليوم هي في أسوأ حالاتها داخلياً، منقسمة على نفسها، وشعبها يقبع داخل خوف وجودي، وقادتها السياسيون والعسكريون سيعيشون تلاحقهم مذكرات اعتقال دولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ودولتهم متهمة أمام محكمة العدل الدولية تواجه قضية إبادة جماعية.

إسرائيل قائمة على عنصرين أساسيين، الأمن والشرعية، وخلال حربها الإجرامية على غزّة لم تحقق أياً منهما، فهي اليوم أقلّ أمناً مما كانت عليه قبل 7 أكتوبر (2023). والحال أنها صنعت لها أعداء في كل المنطقة ولأجيال قادمة، أما شرعيتها فهي اليوم موضوع سؤال كبير، بعد أن اهتزّت ومعها صورتها التي تلطّخت في العالم، لأنها ستظلّ مرتبطة بجرائمها التي لن تنساها الذاكرة الجماعية للناس في كل مكان. أما المقاومة الفلسطينية، سواء كان اسمها “حماس” أو “الجهاد الإسلامي” أو أي مسمّى يظهر غداً، فسوف تبقى مهما تلقّت من ضربات من الأعداء والأشقّاء، ومهما خسرت من القادة والشهداء، ما بقيت الإرادة الفلسطينية قائمة، وهذه حية لا تموت وستنتصر في النهاية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى