سلامة الاجتماع السوري تضمن العمران المستدام

عبد الباسط سيدا

مسألة تجاوز كوارث التدمير الوظيفي التي حرص بشّار الأسد الهارب، بوحي من والده الذي أورثه “الجمهورية”، على إحداثها في النسيج المجتمعي الوطني السوري على غاية من الصعوبة، إن لم نقل شبه مستحيلة التحقّق، فهي تتطلّب وقتاً طويلاً للمعالجة المتأنيّة بعيدة النظر، يقوم بها أناس يؤمنون بالمشروع الوطني السوري القابل للحياة، أناس في مقدورهم التسامي فوق الجراح والخطاب الجارح، والقطع مع الأحكام المسبقة المثيرة للفتن والاشمئزاز. فمن دون ترميم هذا النسيج وإعادة بنائه سنكون أمام تقسيم واقعي (حتى وإن لم يكن رسمياً) في سورية، أو سنكون أمام وضع متخم بالصواعق المفجّرة القادرة على إلحاق أفدح الخسائر بالنسيج المعني الهشّ نتيجة عقود من التعبئة والتجييش، وارتكاب أشكال الاستبداد والجرائم كلّها، بما فيها المجازر التي كانت قبل الثورة السورية وأثناءها، بغية إرهاب الناس، وثنيهم عن المطالبة بحقوقهم المشروعة.
هناك حديث كثير اليوم حول مسألة إعادة الإعمار في سورية بعد سقوط سلطة آل الأسد المستبدّة الفاسدة المُفسِدة وهروب بشّار، إلى جانب الفِكَر التي تطرح بكثافةٍ من أجل معالجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها السوريون في جميع الأماكن. غير أن مسألة ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري لا تقل أهميةً عن مسألة إعادة بناء العمران، بل سابقة عليها.

السوريون بمكوّناتهم كلّها يحتاجون إلى الطمأنة بعهود مكتوبة، وإجراءات تعزّز الثقة في الأرض

فإعادة بناء النسيج المذكور بصورة سليمة، ليكون محصّناً في مواجهة سائر الجهود التخريبية، سواء الداخلية منها أو الخارجية، التي ترمي إلى استغلال تنوّع المجتمع السوري، والجروح العميقة التي أحدثها الحكم المافياوي البائد فيه، مقدّمةٌ ضروريةٌ لا غنىً عنها لأيّ استقرار مجتمعي يحتاجه العمران أكثر من أيّ شيء آخر.
ولعلّ من المناسب هنا أن أذكّر في هذا السياق، أنني التقيت في بداية الثورة السورية عام 2011 بصديق علوي من المطّلعين على الأوضاع في الساحل السوري بدقّة وحكمة، ومن الخبراء في تحليل سياسات سلطة آل الأسد وخلفياتها، ومن المناهضين لها في الوقت ذاته، وأثناء الحديث حول ما ينتظر سورية، طرحت عليه سؤالاً صريحاً مباشراً: كيف هي الأوضاع ضمن الطائفة؟ وذلك لقناعتي بأهمية هذا الموضوع، وضرورة التعامل معه بصبر وبعد نظر، إذا كانت لدينا النيّة للمحافظة على سورية موحّدة، فأيّ حديث عن وحدة سورية من دون طمأنة سائر مكوّناتها، سيكون مُجرَّد حديث مجاملاتي شعاراتي، لن يؤدّي إلى نتيجة ملموسة في أرض الواقع لصالح السوريين.
أجابني الصديق: “ألتقي من حين إلى آخر بالعقلاء ضمن الطائفة، وهم يؤكّدون باستمرار أنه ليس من مصلحتنا أن نكون إلى جانب إيران ضدّ العرب الذين نحن جزء منهم. فقد فرضت هذه السلطة على الطائفة وضعية التبعية لإيران، وذلك لغايات تخصّها، ولكنّ المشكلة تكمن في عامّة الناس وأنصاف المتعلّمين، الذين أقنعتهم السلطة الأسدية بأن زوالها سيؤدّي إلى ارتكاب المجازر في حقّهم، فهؤلاء سيبقون مع السلطة حتى آخر رمق. لذلك لا بدّ أن يتركّز العمل من أجل إقناع هؤلاء بعدم صحّة مزاعم السلطة، وأن مصلحتهم متماهية مع مصلحة سائر السوريين، وهي تكمن في التخلّص من هذه السلطة”. ومرّت الأعوام، وتحوّلت الثورة السلمية إلى العسكرة تحت ضغط توحّش السلطة، الذي كان أصلاً بناء على المخطّطات التي كان قد توافق عليها الأسد مع راعيه الإيراني، الذي كان يرى في سورية الركن الأساس في مشروعه التوسّعي الممتدّ من حدود أفغانستان إلى شواطئ المتوسّط، فقد قرّر بشّار عدم الاستجابة لمطالب السوريين، بل اعتمد أسلوب استخدام أقصى درجات القسوة معهم.
ومع العسكرة تزايد نفوذ الإسلاميين والفصائل الإسلامية، وذلك لضعف وتفتّت القوى السياسية السورية المعارضة الأخرى، من ديمقراطية وليبرالية وعلمانية، وحتى وطنية. وهذه القوى أصلاً كانت ضعيفةً منذ أيّام حافظ الأسد، الذي كان قد تمكّن من تدجين قسم كبير منها ضمن إطار الجبهة الوطنية التقدّمية، التي شكّلها عام 1972. ومن بين أسباب ضعف القوى أو الاتجاهات المعنية اعتمادها في خطابها نزعةً تبشيريةً تمحورت حول تجارب الآخرين، وتجاهلها في الوقت ذاته خصوصية مجتمعها، بل كانت تمارس أحياناً صيغةً من صيغ السلوكية الفوقية مع وسطها الشعبي، الذي كان من المفروض أن يكون حاضتنها وسندها.
كما أن الخلافات الشخصية، والنزعات النرجسية بين المعارضين السوريين خارج إطار القوى الاسلامية، أدّت بصورة مستمرّة إلى تكريس الانشقاقات وتقسيم الصفوف، في وقت كان الوضع يلزم الجميع بترك الخلافات كلّها جانباً، وتركيز الجهود. هذا في حين أن القوى الإسلامية رغم خلافاتها التقليدية (مثل الخلافات بين الإخوان المسلمين والسلفيين، والخلاف بين السلفيين والمتصوّفة، والخلافات البينية بين السلفيين أنفسهم، والإخوان أنفسهم) استطاعت توحيد صفوفها، وتشكيل كثير من الجمعيات الخاصّة بالشباب والمرأة والإغاثة وغير ذلك. وما ساعدها استخدامها المساجد والجمعيات، وغيرها من أماكن للاجتماع، واستمرّ “الإخوان” في هذا الأسلوب بعد انتقالهم إلى خارج البلاد، لا سيّما بعد الضربة القوية التي تلقّوها في سورية في بداية ثمانينيّات القرن المنصرم، ومن ثمّ إصدار حافظ الأسد فرمانه القرقوشي الذي كان يقضي بإعدام كلّ من تثبت علاقته التنظيمية مع حركة الإخوان المسلمين. هذا، في حين أن القوى المعارضة الأخرى كانت مشغولةً بخلافاتها البينية والشخصية، وبخطابها الأيديولوجي الذي غالباً ما كان يستخدم لغةً تنظيريةً متخمةً بالمصطلحات، التي ربّما كانت تنمّ عن وعي وثقافة، ولكنّها على الصعيد الواقعي كانت قليلةَ الإنتاج.
واليوم، لعلّنا لا نأتي بجديد إذا قلنا إن سورية تعيش راهناً مرحلةً بالغة الحساسية والتعقيد، تتقاطع في أوجه عدة منها مع تلك التي عاشتها في بدايات تاسيسها دولةً حديثةَ التكوين بعد الحرب العالمية الأولى. فسورية اليوم خارجة من دائرة سطوة الحكم البعثي، الذي استمرّ أكثر من ستّة عقود، امتدّ فيها الحكم الأسدي في مدى 54 عاماً، وقد شهدت هذه الفترة الطويلة باستمرار صراعات عنيفة بين أطراف الحكم، وغالباً ما كانت تلك الصراعات تأخذ بعداً طائفياً، هذا في حين أن القيادات المنتمية إلى الغالبية السُنّية كانت، إمّا مبعدة أو مهمّشة من جانب الحزب المذكور، وفي معظم الأحيان كانت تُعتمَد ديكوراً، أو مُجرَّد واجهة ترويجية توحي بتمثيل الحزب المعني مختلف الطوائف السورية. ومن المعروف عن الحزب نفسه أنه اتّخذ من الأيديولوجية القوموية العنصرية عقيدته التعبوية، فالكلّ في سورية بموجب هذه العقيدة هم عرب، ومن يصرّ على انتمائه القومي يطرد من “الوطني العربي”. وهكذا غدت المكوّنات القومية السورية غير العربية بموجب عقيدة “البعث” عرباً، أمّا الكرد، الذين قسّمتهم اتفاقيات بعد الحرب العالمية الأولى، وتلك التي كانت قبلها، فكانت لهم خصوصيتهم التي حالت دون تمكّن “البعث” من إلغائها، فكانت السياسة الاضطهادية المزدوجة التي تمثّلت في التهم والأحكام السلبية، والسياسات العنصرية، التي تجلّت في العديد من المشاريع والإجراءات التمييزية، إلى جانب الحرمان من أبسط الحقوق المشروعة.
سورية اليوم بأشدّ الحاجة إلى القطع مع المنظومة المفهومية التي رسّخها حزب البعث في أذهان كثيرين من السوريين، بمن فيهم النخب السياسية من مختلف التوجّهات. فالقطع مع الاستبداد لن يكون كاملاً ما لم يكن قطعاً مبرماً مع مسوّغاته النظرية وشعاراته التضليلية. كما أن الحكم على الطوائف الدينية أو المذهبية لا يمكن أن يكون (ولا يجوز أن يكون) من خلال تصرّفات وجرائم بعض أعضاء تلك الطوائف، ومحاولاتهم استغلال الطائفة لصالح مشاريعهم الانتهازية التسلطية.

اعتمدت القوى المُعارِضة في خطابها نزعةً تبشيريةً تمحورت حول تجارب الآخرين وتجاهلها خصوصية مجتمعها

وفي هذا السياق، لا بدّ من التوقّف بكلّ جدية أمام ما يقال عن الانتهاكات والأعمال الانتقامية، والتصرّفات الاستفزازية التي تحدث هنا وهناك؛ وذلك بغية التحقّق من صحّة ما يُروّج، والردّ بالمنطق والحجّة على الشائعات ومزاعم فلول السلطة الأسدية، أو حتى بعض القوى الخارجية، ووضع حدّ لتلك الانتهاكات إن وجدت، واعتماد الصيغة المناسبة ضمن إطار القانون للتعامل معها.
السوريون بمكوّناتهم كلّها يحتاجون إلى الطمأنة بعهود مكتوبة، وإجراءات تعزّز الثقة في الأرض، وهذا لن يتحقّق من دون مصالحة وطنية حقيقية وليست مُجرَّد مصالحة مجاملاتية، أو تطمينات عامّة لا تكفي لتهدئة الناس، ولا تمنحهم شعور الثقة بالمستقبل. المطلوب مصالحةٌ تُكلَّف بها لجان حريصة على شعبها ووطنها، لجان تشرف عليها شخصيات تمتلك المصداقية والوزن في الساحة الوطنية السورية، شخصيات قادرة على التواصل مع الجميع بثقة ومن دون أيّ عقد، وتحرص على تبديد الهواجس عبر اعتماد آليات واضحة لقمع المخالفات وتطويق الفتن.
وفي موازاة المصالحة الوطنية، ينتظر السوريون بفارغ الصبر تطبيق العدالة الانتقالية بحقّ الذين أجرموا في حقّ السوريين، وأسهموا بصورة مباشرة أو غير مباشرة في عمليات القتل والمجازر التي ارتكبتها السلطة البائدة في مختلف المناطق السورية. وحتى تكون هذه العملية سليمةً، وتكون عادلةً بعيدةً كلّ البعد عن الانتقام الأعمى، لا بدّ أن تكون شفّافة، وأمام المحاكم المختصّة، وبحضور المحامين، وحتى ممثّلي المنظّمات الحقوقية الوطنية والعربية والدولية.
ما حدث في سورية أمر كبير؛ وفرح السوريين بالنصر كبير لا يعادله شيء. لذلك، من الضروري أن يكون هناك حرص من الجميع على استمرارية هذا الفرح، وعدم تحويله أتراحاً جديدةً تضاف إلى تلك التي عانى منها السوريون كثيراً، وذلك يكون عبر مصالحة وطنية راسخة تكون رافعة أمينة للنهوض بالعمران.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى