سوريا ومرحلة اللا دولة والفوضى

جمال الشوفي

مضى شهر على سقوط النظام وهروب رأس حكمه وذلك في أسوأ شكل لنهاية رئيس كان يدعي المقاومة والصمود والتصدي. وحقيقة الأمر أنه كان نظاماً أمنياً قاتلاً ومستبداً بكل شؤون حياة السوريين، وهمومه لا تتجاوز متعه المريضة بالحكم وجني المال والرفاهيات ومن خلفه منظومته الحاكمة الفاسدة، وآخر همه هو هذا الشعب. الشعب المقهور والمحكوم بالحديد والنار لعقود والمنهك للدرك الأسفل مادياً واقتصادياً، ما إن زال ما كان جاثماً على صدره من رعب أمني حتى انفكت عقد خوفه وبدأ يتكلم في كل شؤونه الحياتية والسياسية وحقوقه المسلوبة، كما وعادت الكثير من المشاريع السابقة والمعطلة المعروفة بالمعارضة التاريخية بالظهور للعلن وتوقعها قرب تحقق أهدافها، إن لم يكن أحقية وراهنية تحققها. ما فتح المجال الواسع للفرضيات والتوصيفات والشرعيات التي تجتاح الساحة السورية اليوم في كم فوضوي كبير.

اليوم تمر سوريا بمرحلة اللا دولة، مرحلة مفرغة من جهازي الشرطة والجيش بشكل رئيسي مع شبه فراغ مالي واقتصادي، سمتها حكومة الإنقاذ المؤقتة بمرحلة تيسير أعمال مؤسسات الدولة السابقة الإدارية والخدمية. فالخدمات الأساسية من كهرباء وماء ومحروقات ومواد الغذاء الأساسية، الأمن والأمان أولويات أولى يتطلب استمرارها دون الوقوع في الفراغ. وهي أولوية أولى في هذه المرحلة الصعبة والمعقدة ما بعد سقوط النظام. إذ تعتبر المرحلة الحالية تحدياً كبيراً أمام السوريين مقابل ما كانت تطلقه بعض المؤسسات الدولية والأممية عن سقوط مؤسسات الدولة بسقوط النظام في السنوات السابقة، وهذا مشروط للحظة بالقدرة الإدارية للحكومة المؤقتة والتعاون المجتمعي والعربي والدولي معها. فيما القضايا السياسية والمستقبلية فهي ليست ببعيدة المنال وهي محط حوار بدأ منذ سنوات الثورة الأولى وما زال مستمراً.

فمن قبل أن يسقط نظام الحكم في سوريا بزمن ونحن السوريين نناقش ونجادل معرفياً وفكرياً بضرورة البحث في شؤون الحكم المستند في الجذر على مفهوم الدولة الحيادي تجاه كل مؤسساتها، فيما تكون السلطة السياسية حتى وإن كانت سيادية، هي إحدى مؤسساتها المحددة صلاحياتها بدستور الدولة، وذلك من حيث الصلاحيات والمدة الزمنية بحيث تضمن القوانين الوضعية عدم تغولها على مؤسسات الدولة وإسباغها نموذجها السلطوي عليها، كما فعل البعث في سوريا لعقود. واليوم، تجتاح سوريا حمى الوصفات العامة وسيل هائل من فوضى الاشتباك اللغوي والوصفي لشكل الدولة السورية. فهي مركزية مقابل لا مركزية، وعلمانية مقابل دينية.. ومن هذه الأربعة يمكن اشتقاق أي صفتين مع بعض: مركزية دينية أو مركزية علمانية، ولا مركزية علمانية ولا مركزية دينية، فكيف وإن أضفنا على هذا مثلاً صفات العربية والقومية أو غيرها؟ فالعجب العجاب! لكن رغم هذا، وحتى لا نسهم في تأجيج حمى وفوضى الأسماء والصفات، لنعترف بالمبدأ بمحددات الواقع الحالي:

  • إنها المرة الأولى في تاريخ سوريا يستطيع كل فرد أو مجموعة فيها أن يعبر عن أفكاره وطموحاته دون خوف من اعتقال وتغييب وراء السجون، فقد سقط نظام القتل، وهذا إيجابي.
  • حق الاختلاف الذي طالما نظرنا له فكرياً وسياسياً بات أمراً واقعاً ونعيشه لحظياً بالواقع باختلاف الأفكار والطروحات والمشاريع، فقد سقط نظام اللون الواحد، وهذا أيضاً إيجابي.
  • القلق العام الذي يسود شرائح واسعة من السوريين حول المستقبل والتخوف من عودة الاستبداد لحياتهم وإن كان بصفات جديدة أمر طبيعي، فنظام القمع ذهب بلا عودة، ولن يأتي أبداً أسوأ منه فهو الأسوأ بالتاريخ، وهذا منتج إيجابي آخر لكن يشوبه التخوف والقلق ولن تتضح معالمه السياسية إلا ما بعد أول آذار.
  • مرحلة اللا دولة وجهد الحكومة المؤقتة بالسعي لتلبية الخدمات العامة يصطدم بحواجز أهمها: ضعف الموارد العامة ما يجعل التحسن في الخدمات طفيفاً جداً، وغياب لجهازي الأمن العام المتمثل بالشرطة والمؤسسة العسكرية، مع انتشار واسع للحالة الفصائلية التي كانت قوام العملية الأساسية التي حررت المدن السورية من نظام العصابة الحاكم. وهذه المؤشرات بجماعها لليوم تعتبر سيئة وتحتاج إلى عمل دؤوب وحثيث لملء هذا الفراغ الحاصل تقنياً ومادياً من حيث العتاد والأفراد، وذهنياً ونفسياً من حيث بناء القدرات المحلية وتهيئتها للعمل وفق قواعد وأنظمة القانون المعروف عرفاً بكونه قوانين دولة قبل أن تتشكل الدولة بذاتها وهنا يبدو التحدي الأكبر.
  • الخلاف على مستويات المرحلة الانتقالية سواء من حيث صفات الدولة أو دستورها هو خلاف طبيعي لكنه يعتبر استباقاً مرحلياً يؤجج فوضى الأفكار والمشاريع، والأكثر حيوية وأهمية للمستقبل القريب هو ضرورة السعي باتجاه إقامة التفاهمات الذاتية المحلية حول هذه المرحلة وفق عناوين واضحة هي:

الحكومة الانتقالية المصغرة أو هيئة الحكم الانتقالي، اللجنة التأسيسية المنتخبة لصياغة الدستور، هيئة قضائية مستقلة لتحقيق العدالة الانتقالية. وهذه المؤسسات الثلاث هي ما يجب أن تكون محور العناوين السورية في الفترة الحالية سواء من حيث الصلاحيات والمدة الزمنية وآليات التمثيل والتشكيل.

الخلاف المستعصي لليوم، والذي تقوم حوله السجالات والخلافات، وتتشكل خلفه المحاور والاستعصاءات، هو الدولة وإعطاؤها صفاتها الجسمية والقانونية والدستورية والسلطوية، قبل أن تتحقق الدولة ذاتها، كمن يكسي شقته قبل أن يبني هيكلها الأولي ويمتن أساساتها. فبدل أن تتفق الأطر المحلية السورية على الأسس الأولى للمرحلة الحالية وضعياً بعيداً عن المخاض الثوري، بدأ الخلاف مبكراً على صفات الدولة. والنتيجة اليوم، وعلى الرغم من عديد المحاولات البحثية والإنقاذية لتفادي هذه الفوضى إلا أنها تصطدم بفجوة واسعة من مرحلة اللا دولة والتي يمكن أن تستوعب أي صفة لها لكن لا يمكنها أن تستنفذها. وبالضرورة تبدو مرحلة الوصول للتعاقد الوطني العام ستمر بمرحلة من التجاذبات والحوارات الواسعة حتى تكتسي الدولة شكلها وجسمها وهذا قد يأخذ وقته النسبي. ومع هذا أعتقد أنه ثمة أسس عريضة يمكن أن تؤسس لنواة هذه الدولة وتعتبر توافقية وثورية وعصرية بالوقت ذاته ولا تستنفذ سواها، ويمكن اعتمادها حجر أساس للدولة المنشودة هي:

  1. القانون الوضعي هو تعاقد البشر الرضائي على طريقة إدارة أمور حياتهم المادية والسياسية والاقتصادية بين حدي عدم الاعتداء الشخصي أو العام، دون ميزة لجهة سياسية أو دينية على الآخرين.
  2. حق الإنسان الفرد وكل إنسان (رجل امرأة طفل) أيا كان انتمائه الديني أو السياسي المدني أو الأهلي بصفاته الجنسية والشخصية بالحياة الحرة الكريمة، وضمان فرص العمل المتكافئة والعلم والصحة.
  3. حق التعبير عن الرأي وتشكيل الجمعيات والأحزاب والمؤسسات المدنية والسياسية، وحق تمثيلها الانتخابي وإقامة تحالفاتها السياسية ضمن القانون الوضعي.

وهذه الثلاث تحديداً هي جذر مفهوم الدولة بلا صفات أو نكهات، حيث مثلث: الشعب والمؤسسات ضمن حيز جغرافي يُضاف لها الإرادة الشعبية، أو هويتها الذاتية وشخصيتها العمومية، والتي تقر بوجود الجميع بأفكارهم ومعتقداتهم جميعاً مهما اختلفوا فيما بينهم، لكنهم ملتزمون ببناء دولة غير مرتهنة لا للعسكر ولا للدين ولا مشاريع استثمارية خارجية، ولا تتعارض مع الديني ولا العلماني ولا غيره من الأيديولوجيا، وهذا رهن بالمستقبل القريب.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى