سورية بين سنوات الأمل وسنوات اليأس

مالك داغستاني

منذ عام 2011 وحتى تحرير دمشق نهاية العام المنصرم، تجرَّع السوريون، وهم يتابعون حلمهم بالانعتاق، الأثمان وإن على دفعات، وكلما ازدادت عليهم جرعة النيران، خصوصاً في السنوات الأولى، كانوا يواجهونها بعزيمة وصلابة، لم يعرف النظام ولم يكن في حسبانه، أن السوريين مازالوا يمتلكونها بعد عقود من التيئيس المبرمج لهم ولأحلامهم بأي تغيير.

عقودُ جعلت معظم السوريين يعتبرون حكم الأسد جزءاً طبيعياً من قدرهم، مع ضخٍّ إعلاميٍ امتد لأربعة عقود يعتبر فكرة “الأسد للأبد” واحدة من المسلمات.

بعد انطلاق الثورة، لم يدَّخر بشار الأسد ومجرموه أي جهد ليقنع السوريين، ثواراً وموالين، أن الثورة عليه هي المدخل إلى جحيمٍ سوريٍ لن يُنتِجَ أي أمل.. قَتَلَ المتظاهرين السلميين بالرصاص وتحت التعذيب، أطلقَ حُراس جهنمه ليرتكبوا جرائمهم برعايته، دمَّر المدن والقرى، ورماها بكل الأسلحة الجحيمية المتوفرة في ترسانته وترسانات حلفائه، كل ذلك مترافقاً مع أفق عالمي مفتوح ومُشرع على انعدام الأمل بأية مساعدة، وسط عجز دولي غير مسبوق عن إيقاف المجزرة المستمرة.

كبرت الأثمان، ولم ينكسر أملهم، وراحوا كل يوم، وهم ينزفون دمهم، يدارون حلمهم من الانطفاء، خسروا كل شيء، ولم يعد هناك ما يدفعهم إلا هذا الأمل، الذي يحكم كل حركتهم في الطريق إلى حريتهم..

خرج السوريون إلى الشارع وصرخوا بمواجهة الأسد، تلقّوا رصاصَهُ وتابعوا صرخاتهم، بعد أن عاشوا وتذوقوا طعم الحرية التي لم يعرفوها يوماً، واجتاحتهم الآمال أنهم لا بدَّ واصلون إليها.

كبرت الأثمان، ولم ينكسر أملهم، وراحوا كل يوم، وهم ينزفون دمهم، يدارون حلمهم من الانطفاء، خسروا كل شيء، ولم يعد هناك ما يدفعهم إلا هذا الأمل، الذي يحكم كل حركتهم في الطريق إلى حريتهم، ويقيناً لو واجه أي مجتمع آخر ما واجهه السوريون فعلى الأرجح أنه كان سيتراجع أمام فداحة الخسائر وخاصة البشرية.

عندما تعود الذاكرة إلى البدايات، ستلتقط ومضات تراجيدية تنتمي إلى ما هو غير قابل للتصديق، يُدمَّر البيت فتردُّ امرأة سورية: “لا بأس سوف نبني أفضل منه”، يُعتقل الابن في سجون الأسد، التي قد لا يخرج منها حيّاً، فيجيب أبٌ سوري: “حسناً، إنه ليس أغلى من بقية الشباب السوريين”، يسقط الضحايا بالعشرات يومياً ويردد السوريون: “إنهم شهداؤنا، وهم في الجنّة”، هكذا بقي السوريون قيد الأمل خلال الأعوام الأولى للثورة، والمواجهة مع نظامٍ مُنفلت من أي عقل أو أخلاق.

بعدها فعل الزمن ما يمكن أن يفعله بأي شعب خسر كل شيء، وسُدَّت في وجهه أية نافذة للأمل، سيطر على معظمنا اليأس، خصوصاً بعد استعادة الأسد معظم المناطق المحررة، بدعم من الحليفين الإيراني والروسي، ما أوحى بالتواطؤ الدولي لتسليم الملف السوري إلى روسيا، خفتت أصوات من هم في مناطق النظام، وغابت كثير من الأصوات في الخارج، وبدا أن دور الأجسام السياسية المعارضة يقتصر على تمرير الوقت، من دون أية فاعلية منتجة.

عندما بدأت معركة “ردع العدوان”، مثل أيّ سوري اختبر المناوشات بين الفصائل العسكرية المعارضة وقوات الأسد، انتابني الخوف، كل الأمثلة السابقة كانت تفيد بأن معركة محدودة ستُفتح، ربما لمصلحة طرف خارجي، وسيدفع المدنيون السوريون الثمن قصفاً بالطائرات الروسية وبراميل الأسد، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه مع مئات الضحايا، من دون أي توظيف سياسي يصبُّ في مصلحة مستقبل السوريين.

وثانيةً، مثل أي سوريّ اكتشفت عند وصول قوات المعارضة إلى أبواب مدينة حلب، أن المعركة ليست نسخة من سيناريوهات، لطالما تكررت وكانت مخزية في نتائجها، مع المتابعة إلى حماة بدا الأمر وكأن الغطاء الدولي الذي كان يحمي بقاء الأسد قد تم رفعه، بالطبع هذا لم يكن ليحدث لولا أن هناك تطمينا لصُنّاع القرار الدولي، أن هيئة تحرير الشام الذي ستطيح بالأسد، ليست هي ذاتها التي عرفها العالم قبل سنوات، وبالتأكيد أنها لن تقيم الدولة الإسلامية المنغلقة والمتطرفة، التي يخشى العالم قيامها، وكان هذا بالغ الوضوح بعد تحرير حلب، حيث تعاملت قوات المعارضة بمعايير تشي بهذا التغيّر الانقلابي.

مع ملاحظة بعض الانتهاكات المُدانة بالتأكيد، بدا أن السوريين يعودون إلى التمسك بأهداف وسلوكيات الثورة السلمية الأولى، حتى في حالة (المدافعين) عن تلك الانتهاكات، فإن دفاعهم تبريري ويستبطن إدانةً لها، حين يفسرها هؤلاء بأنها ردات فعل طبيعية على جرائم النظام وشبيحته.

وهذا يعني فيما يعنيه، أن هؤلاء يقيِّمون هذا السلوك باعتباره سلوكاً غير أخلاقي، ومع ذلك يعتبرونه مُفَسراً في سياقه كردة فعل، طبعاً ما سبق لا يجب أن يدعنا ننام مطمئنين لقناعة ساذجة أن الأمور بخير، بل على العكس، يجب أن يدفع الجميع للعمل على تصويب ما يرونه مُشوِّها لسوريا التي يريدون.

إن أخطر ما سيواجه المجتمع السوري اليوم، هو الاستسلام لإرث وثقافة النظام، المبنية على التجاوز والارتكاب ومن ثم الإفلات من العقاب، بذريعة حصانةٍ ما، فالتحدي الأكبر هو بناء ثقافة عدالة جديدة تكون جديرة باسمها، ولا تقوم على أية حالة انحياز لا على أساس سياسي ولا ديني، ولا على أي اعتبار مشابه آخر.

وما يزيد من استبشاري، الإعلان المتكرر من السلطات اليوم بأن سوريا سوف تكون لكل السوريين من دون استثناء، وهو ما يكذِّب ويجوِّف الرواية التي حرص الأسد على ترسيخها حين كان يطرح أمام الرأي العام الداخلي والخارجي ثنائياته للمقارنة..

شخصياً، ما يبشّرني بأننا مقدمون على عصر سوريّ جديد ومختلف كلّياً، أنني من خلال متابعتي للمحطات الفضائية، أجد عشرات الفرق الإعلامية التلفزيونية والصحفية العربية والعالمية مقيمة في دمشق! سابقة لم تحدث منذ ستة عقود، وربما لم تحدث بهذا الحجم في كامل تاريخ سوريا، سوريا التي كانت مسوّرة بسياج فولاذي بمواجهة الإعلام الدولي، ومنغلقة في إعلامها الداخلي باتت مفتوحة اليوم على الحريات، والإعلاميون والمحللون يتحدثون بوجهات نظرهم، حتى بمواجهة الحكام الجدد، ومن داخل دمشق! ليبدو الأمر وكأن المعجزة السورية تتحقق.

وما يزيد من استبشاري، الإعلان المتكرر من السلطات اليوم بأن سوريا سوف تكون لكل السوريين من دون استثناء، وهو ما يكذِّب ويجوِّف الرواية التي حرص الأسد على ترسيخها حين كان يطرح أمام الرأي العام الداخلي والخارجي ثنائياته للمقارنة.

أنا أو الفلتان الأمني والحرب الأهلية والنزاع الطائفي.. أنا أو المجموعات الإرهابية والتكفيرية (القاعدة) التي ستحكم سوريا.

لاحظوا أن الأسد كان مستسلماً لحقيقة أنه نظام سيئ، ما اضطره في كل مرّة إلى المقارنة مع نموذج أسوأ، أما اليوم فأمام سوريا الفرصة الأولى لتقرّر بأنها لن تكون فقط في حال أفضل من حالها إبان حكم الأسد، فتلك مقارنة لا تليق مع نظام هو الأسوأ في العالم.. اليوم الأفق مفتوح لتقديم نموذج يجعل السوريين جميعاً فخورين ببلدهم، حتى لو اختلفوا مع السلطات الجديدة.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى