المشاهد التي تراها في دمشق اليوم غابت أكثر من سبعين عاماً، باتت المدينة ندوة مفتوحة، يمكنك أن تنضم إلى أي منها دون موعد مسبق. اسمها: أن يستعيد السوريون صوتهم ويستأنفوا سوريتهم.
المدينة التي شهدت افتتاح عدد كبير من المقاهي في السنوات الأخيرة، كان الهدف منها أن تكون مخدمة بالكهرباء والإنترنت، كأنها تحضر نفسها لمثل هذا اليوم، وبات الحديث عن مستقبل البلد يتداخل مع دخان الأراكيل وأصوات الباحثين عن “أغراض مستعملة للبيع”، ضجيج وصمت وعيون تبحث عن مستقبل لها وللمدينة والبلد.
كان طبيعياً أن يتقاعد كثيرون عن العمل السياسي، بعد أن تحقق هدف الثورة، بعد أن كانت السياسة عجين المجتمع الذي يخبزه يومياً عبر الأمنيات برحيل ديكتاتور آثم، وبرحيله المفاجئ جعل الأحاديث السورية تنتقل مباشرة إلى المستقبل وشكل الدولة، في ظل شح للمعلومات عن شكل الدولة القادم. غير أن السوريين لا يحبون التقاعد، فأي غشيم سيترك حبيبته وفيه نبض يسري؟
يقول السوريون اليوم إن سألتهم ما الذي يهمكم: نريد دولة قوية لها صوت، تحمينا، ونرفع رأسنا حين نقول إن هذه دولتنا، يشعر الكثير منهم أن ذلك الديكتاتور قد جعلها رمزاً للكبتاغون أو لأسوأ جواز سفر في العالم!
غير أنهم يتداركون ذلك سريعاً: نريد أن نحتفل عبر زراعة ياسمينة أمام كل بيت ومتجر.
أسياخ الشاورما الأضخم في العالم تعلن هي الأخرى عن استئناف الحياة في المدينة، كي تمشي مشاهد الحياة.
غير أن المشهد الذي لا يخفى عليك هو الفرح، الفرح في الأرصفة والحارات المظلمة والنساء اللاتي بات صوتهن مسموعاً، يا إلهي ما أجمل أصوات النساء وهي تحكي عن وجعها وهمها بعد أن قمنا نحن الرجال بتلك المهمة. للنساء صوت مختلف عنا، علينا أن نفرح به ونكبر وأن نتقاعد عن الحديث باسمهن.
ثمة مشاعر إنسانية تتفتح كل يوم، أن تحس بالآخر، قد تتذمر من شحاذ يزعجك بإلحاحه، فأنت فرد ولا يمكنك القيام بدور جمعية خيرية، لكن صور الشحاذين لن تغادر ذاكرتك. ستجد نفسك يوماً تلو يوم تستعيد جوانب منسية من ذاتك، أكلتها الغربة والعمل الإداري والاكتفاء المادي والفردانية. ستشكر السائق الذي أصر على تقديم القهوة لك مجاناً، ستنهض فردانيتك أول مرة لكنها ستختفي أولاً بأول حين يجتمع الرفاق لشراء حاجياتهم حيث سيسهرون في بيت صديق يخرج من براده كل ما هو موجود دون أن يدخل في الحسابات.
وحين تقول لك صديقة عتيقة: البيت أدفأ، ما رأيك أن نشرب القهوة معاً، ولتشجعك: قهوتي طيبة ها!
يا الله منذ متى لم أسمع بسيدة تفتخر بغلوة قهوتها، بعزة نفس أنثى سورية لم تأكلها أنانية البحث عن الذات ومحاربة طواحين الهواء. ستقودك تلك الصديقة بكل دفء الأنثى بسيارتها، تدور بك في الحواري وتشرح لك، وأنت تنصت طفلاً صغيراً في خمسينياته.
الأصدقاء يستعجلونك فقد التم خليلان ويعرب وخالد وشام يتبادلون أفكارا رابطها الوحيد هو سقوط جدار برلين السوري اجتماعياً
وقد سقط جدار خوف برلين السوري بينهم، يعبرون بصراحة، يبحثون عن حزب يلمهم، لا حل للسوريين بغير الأحزاب، هذه الفسيفساء عصية على التخاصم، تجربون أصواتكم، يحدثكم صديق شيوعي عن شرطه الوحيد كي ينتسب للحزب ألا تصدروا قراراً بفصله عمن يحب فقد سبق أن قصدت الحزب الشيوعي عن حبه الأول وقد أصدرت الخلية الحزبية قرارا بإيقاف علاقة حبه فالأحزاب لا تريد أن يلتهي الرفاق عن مهامهم الحزبية بمهامهم القلبية.
هل سيكون الحزب يساريا وسطا يجمع كل أولئك الحالمين بعبور انتماءاتهم العائلية، والطائفية والولادية؟
روائي يتهمه من لايحبونه بالعدائية يقول لكم: أكره الأحزاب، الحزب الوحيد الذي أنتمي إليه قلب امرأة فتنتها وسامتي!
تجد نفسك في مقهى الروضة، تعدد الرفاق هذا فريق ألمانيا وهذا إسطنبول وهذا هولندا وذاك بريطانيا؟ كيف حدث هذا يا رفاق، وحين تصدح: ارفع راسك فوق! تتمايلون معاً متناسين تلك الخصومات البعيدة التي ولدتها الآفاق الضيقة.
سوريا اليوم بين مسافر ومقيم، تجمعهم أشواق وذكريات
ولعل أجمل طريق تنسجه سوريا اليوم هو طريق القُبل والعناقات الحارة بين العائدين/ ات من السفر والمقيمين، بين المقيمين والمقيمين والعائدين والعائدين. كمشات من الدموع والشوق وشهقات من الأمل. بوسات على الخدود والأكتاف والرؤوس، ضمات طوييييلة تقول: كان الغياب طويلاً يا وطن. هشم الحنين قلوبنا المتهالكة… تجدها في المقاهي والأرصفة وعتبات البيوت. خطوات تحملها العيون، تقول: اشتقنا والله اشتقنا يا بلد يا بنت البلد، يا بن البلد
وقد سقط جدران برلين الاجتماعي السوري إلى الأبد. لن يسمح السوريون بعد اليوم ببناء سدود اجتماعية بينهم بعد أن اكتشفوا أن معظم مشكلاتهم كانت نابعة من قلة التواصل وندرة الحكي.
جدار برلين السوري الاجتماعي كان يتكون من شك وخوف وقمع وحيطان لها آذان وصمت أفلحت سلطة ديكتاتورية ببناء مداميكه في الذات السورية لبنة لبنة، ليس من السهولة إزالته دفعة واحدة، غير أننا يمكن أن نستعيض عنه بزراعة نبتة ياسمين أمام عتبات بيوتنا نقدم عبقها لحبيباتنا المسافرات بعيداً حيث لا أحد سوى الرماد.
يمكننا أن نبني اليوم في سوريا جدرانا من ياسمين يسهل على العاشق السوري اقتحامها ليقول لحبيبته: أريد أن أحكي لك عما يدور في قلبي، فهل لديك وقت لتسمعيني؟
المصدر: تلفزيون سوريا