منذ انطلاق فضائية الجزيرة، وصاحب هذه السطور يتابع بدهشة (ودعم) المهنية الرفيعة لهذه القناة، وما زال مقتنعاً أن ما تقدّمه الجزيرة وجبة إعلامية ممتازة، تتيح متابعتها أن يفهم المشاهد ما يجري إقليمياً ومحلّياً. وفي ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، لا يستطيع أحد أن يزاود على مؤسّسة إعلامية قدّم صحافيوها الغالي والثمين من أجل نقلٍ صادقٍ ومستمرٍّ لما يحدث، ولا يمكن ان نذكر أسماء الشهداء والأحياء من مراسلي “الجزيرة” من دون أن نتوقّف ونشهد لهم بجرأتهم ومهنيّتهم ودفاعهم الصادق والأمين عن الخبر وعن المعاناة التي تحدث في فلسطين. ينطبق ذلك كله على الجهاز الصحافي الإخباري، ولكنّه لا ينطبق بالجودة نفسها على الخطّ التحريري والمواقف المسبقة لدى الفضائية الشهيرة. فعند مشاهدة بعض البرامج، وأحياناً المقابلات من الأستوديو، وبعض التقارير الإخبارية، يستشفّ المتابع موقفاً سياسياً مسبقاً، ولا يعارض كاتب هذه السطور أن يكون لأيّ مؤسّسة إعلامية خطّها التحريري، على أن يكون هذا واضحاً للعيان، ومن دون أيّ محاولة في الاختباء وراء النجاح المهني للفضائية لتمرير أمور يعتقد المشاهد أنها بالموضوعية نفسها التي يتحلّى بها المراسلون الميدانيون.
ليس هذا الانفصام عن الشخصية محصوراً في “الجزيرة”، بل نلحظه أيضاً في غالبية وسائل الإعلام، منها ما هو مكشوف بوضوح مثل فضائية فوكس الأميركية وغيرها، ومنها ما هو خفي مثل “بي بي سي” و”سي أن أن”. لذلك علينا فهم ذلك الأمر والتعامل معه ليس بالضرورة بالحجب والإغلاق، بل من خلال الاستفادة من تلك الفضائيات، وتقليل الأضرار الناجمة من خطّها التحريري، الذي قد لا يكون دائماً مكشوفاً أو عادلاً. ففي عصر الفضائيات، من المستحيل حجب المعلومة، وليس ذا فائدة مباشرة حجب موقع أو فضائية. وقد تكون تجربة “الجزيرة” من أفضل الفضائيات العالمية الممولة من حكومة، ولكنّها تحاول جاهدةً اتّباع المهنية قدر المستطاع في تغطيتها، الأمر الذي سبّب لها صعوبات كثيرة وخسائر في الأرواح.
من الضروري أن يُدعَم الإعلام المستقلّ، ليس بالضرورة بالمال بقدر توفير المعلومة والمقابلة والخبر الحصري له
لا يعني هذا أنه يجب ألّا نتوقّع من أيّ مؤسّسة إعلامية كبيرة وعربية أن تتعاطف مع الرؤية الفلسطينية، ولكن هذه الرؤية لا تعني بالضرورة ما ترغب فيه القيادة الفلسطينية، أو حتى بعض الجهات الإعلامية والنقابية المرتبطة بها. ومن هنا فإن قرار الحكومة الفلسطينية تعليق عمل فضائية الجزيرة يشكّل معضلةً على عدة مستويات، يجب مناقشتها من ناحيتي الربح والخسارة على مستوى المصلحة الوطنية الفلسطينية العُليا. طبعاً هناك أدّلة وحجج قوية يمكن أن تُسوّق لتبرير القرار، ومنها الشكاوى التي قدّمها صحافيون عديدون، واستنتاجات نقابة الصحافيين بعدم مهنية بعض التقارير، ومنها برنامج شمل تزويراً (باستخدام الذكاء الاصطناعي) لما يحدُث في جنين، إلّا أنه في المحصّلة النهائية لا بدّ من التوازن بين الفائدة المباشرة من قرار بحجم إغلاق مكاتب “الجزيرة” في مقابل الضرر على المستويات، المحلّي والإقليمي والعالمي.
من الضروري أيضاً الفصل بين الجهاز الإخباري التابع لفضائية الجزيرة والأقسام الأخرى. فالفريق الإخباري والعاملون فيه قدّموا كثيراً للقضية الفلسطينية، ومنهم من استهدفت حياته وحياة أهله، بينما كان يعمل على إيصال المعلومة والرواية الفلسطينيتين الصادقتين. وفي هذا المقام، كان من الممكن (والأفضل) أن تقاطع البرامج وأن يستمرّ التعامل مع قسم الأخبار على سبيل المثال. الأكثر أهمية ضرورة الاهتمام بالإعلام الوطني، ولا نعني هنا الإعلام الرسمي، بل من الضروري أن يُدعم الإعلام المستقلّ، ليس بالضرورة بالمال بقدر توفير المعلومة والمقابلة والخبر الحصري له، ليصبح مصدراً مهمّاً وذا مصداقية للجميع.
إذاً من المهم للمواطن العادي وللمسؤول السياسي أن يتفهّم ضرورة موازنة الفوائد بالأضرار، فما فيه المصلحة العُليا، وصاحب هذه السطور مقتنع بالفائدة من وجود فضائية الجزيرة في فلسطين، وفي كلّ دولة عربية. المطلوب من الحكومات أن تخصّص فريقاً إعلامياً يدرك تلك الفائدة ويستفيد منها، ويعمل بجدّ في انتقاد بنّاء ومهني لأيّ ضرر. يجب أن يكون ذلك، ليس مع “الجزيرة” فقط، بل مع وسائل الإعلام العربية والعالمية، وحتى الإسرائيلية. فهل لدى القيادة الفلسطينية فريق بمثل هذه الخبرات والذكاء للاستفادة من الإعلام في عصر المعلومات المتوفّرة في كلّ المنصّات؟
المصدر: العربي الجديد