2024 سنة المقاومة والأمل

كمال عبد اللطيف

لم تكن 2024 سنة عادية، كانت أيامها مليئة بالأحداث التي مسّت كثيراً من أركان المجتمعات والأنظمة السياسية العربية وأسسها. صحيح إنها تُعَدّ امتداداً لتحوّلات جرت (وتجري) في المحيط العربي منذ عقود، إلّا أنها فَجَّرت، في الآن نفسه، وقائعَ وفواجعَ جديدةً في الحاضر العربي والفلسطيني. وسنتوقّف ونحن نودّع لحظاتها الأخيرة، لنفكّر في مآلات المقاومة الفلسطينية وآفاقها.
لم أتوقّف طوال أشهر السنة التي نودع، عن متابعة النوافذ والأبواب التي فتحها “طوفان الأقصى” أمام المقاومة الفلسطينية، التي أحيت شعارات التحرير والمواجهة مع الكيان الصهيوني والغرب الإمبريالي، ولم أتوقّف عن بلورة الأسئلة الجديدة، المرتبطة بالأوضاع الفلسطينية العامّة، وذلك ضمن سياق تاريخي يرتبط بتحوّلات جارية، ويشهد ميلاد عوائقَ جديدة ذات صلة بالأوضاع العربية والإقليمية في المشرق والمغرب العربيين. كان انبعاث المقاومة مجدّداً نهاية سنة 2023 بمثابة روح جديدة خلخلت سواكن المحيط العربي، وكشفت كثيراً من أوجه هشاشة المشروع الصهيوني. فماذا يمكن أن نكتب ونحن نودّع سنة 2024؟

احتضان شرارات المقاومة المتواصلة، يحتاج مزيداً من التفكير في متطلباتها ومقتضياتها، وتحسين شروطها

وإذا كنت لم أتوقّف طوال أشهر السنة المنصرمة عن التذكير بأهمية المقاومة، التي فجّرت “طوفان الأقصى” في الحاضرين العربي والفلسطيني، محاولاً متابعة جوانب من صوّر تطوّر الأحوال الفلسطينية في غزّة، وفي باقي الأرض التي يحتلّها الكيان الصهيوني، فإن هذا لا يمنعني اليوم من مواصلة التفكير في سياقات ما حصل ومآلاته، طوال أشهر السنة التي ودّعنا وبدايات السنة التي لاحت علامات أيامها الأولى. لكن كيف نواصل التفكير في زمن تتواصل فيه الحرب وتتّسع ميادينها، لتشمل جغرافية الشام الكبرى؟ كيف نفكّر اليوم في المقاومة؟ ونحن نعرف أن الكيان الصهيوني لا يتردّد في مزيد من تجريب أسلحته الجديدة فوق الأرض العربية، رافعاً شعار الإبادة بالحديد والنار، ولا يتردّد في مزيد من اختراق أنظمة ومجتمعات البلدان العربية المطبّعة، بدعم وتزكية من الغرب الإمبريالي والقوى الإقليمية المتحالفة معه.
أسمع اليوم أصوات الذين ما زالوا تحت الأنقاض، في بنايات غزّة وأنفاقها ومستشفياتها ومدارسها، لا تختفي أصوات من تشتعل النار في ملابسهم، فتتهاوى الأجساد بفعل الحرائق، التي لا تترك منهم شيئاً فيسقطون، لكنّ أصواتهم المختنقة تصبح جزءاً من المكان، إنها اليوم جزءٌ من أرض فلسطين. وتمادي الصهاينة في محاصرة من تبقّى من الفلسطينيين فوق الأرض، لا يمنع الأصوات ولا إرادة المقاومة من مواصلة التغنّي بالأرض وبالإنسان. أمّا مواصلة الاستماع لنداءات الأصوات وعويلها، وتحويله أدواتٍ يمكن أن تستعمل في دروب المواجهات القائمة والمنتظرة، فإنه يُعدّ جزءاً من تاريخ التحرير، كما يُعدّ أفقاً للبحث عن المخارج والسبل الجديدة، من أجل استعادة الأرض وتحريرها، وضمن هذا الأفق أقول “لنواصل جميعاً التفكير في المقاومة، وفي سبل تطويرها”.
تتواصل المقاومة في فلسطين وفي لبنان وسورية، وتواصل الشعوب العربية احتضانها شرارات المقاومة المتواصلة، رغم إكراهات تطبيع الأنظمة السياسية العربية. ويواصل الكيان الصهيوني ضرب الجغرافيا العربية واختراقها بآليات جديدة، ترتبط من جهة بالتحوّلات الجارية في العالم، كما ترتبط بالأوضاع العربية في أكثر صورها اهتزازاً وتدهوراً، إذ اختفت شعارات استكمال التحرّر والتحرير، وشعارات النهضة والوحدة والتحديث والدمقرطة. إلّا أن ما ذكرناه كلّه لا يدفعنا إلى إغفال مؤشّرات المقاومة الفلسطينية، وما فجّرته اليوم من عودة جديدة إلى إعادة طرح الأسئلة الكبرى، في موضوع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، رغم ألاعيب مشروع اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو) ومشروع حلّ الدولتين.
فجّرت المقاومة العائدة طوفان الغضب، وطوفان الأمل في استكمال التحرير، ولأن تاريخ التحرير ليس واحداً، يحقّ لنا أن نعلن أن سنة 2024 دفعتنا إلى أن نحتضن مُجدّداً الأمل في المواجهة وفي التحرير، رغم أن الجسم السياسي الفلسطيني استأنس خلال العقود الثلاثة المنصرمة بـ”أوسلو”، الذي وظّفه الصهاينة من أجل مزيد من الاستيطان، ومزيد من الغطرسة والعنف، وانخرطوا في توسيع جغرافية التطبيع. لا نعتبر ما فجّره طوفان المقاومة العائدة حدثاً بسيطاً، إنه صرخة مُدوّية، وعودة مطلوبة، لمواصلة البحث في أسئلة التحرير، وهي اليوم أسئلة معقّدة ومركّبة، كما كانت منذ أحلام الصهاينة نهاية القرن 19، ووعد بلفور (1917)، وتأسيس الكيان الصهيوني في منتصف القرن الماضي، وهزيمة 1967. كانت القضية الفلسطينية منذ البداية قضيةً دوليةً وعربيةً وإقليميةً، وستبقى كذلك، وينبغي أن نواصل التفكير فيها ضمن معطيات معادلاتها المُركّبة.

ما فجّره طوفان المقاومة العائدة ليس حدثاً بسيطاً، إنه عودة مطلوبة لمواصلة البحث في أسئلة التحرير المركبّة

وطوال أشهر سنة المقاومة، لم تكن المواقف العربية والفلسطينية واحدة، تواصل الانقسام الفلسطيني وتواصل الخلاف بين الفصائل والتنظيمات الفلسطينية، كما تواصلت جهود المناهضين للتطبيع، وكذا جهود الأحرار المندّدين بالعدوان الصهيوني ومظاهراتهم في مدنٍ كثيرة، الأمر الذي يكشف تطوّر كثير من سمات حروب التحرير في العالم. لم يعُد هناك مفرّ اليوم من توسيع دوائر المقاومة الفلسطينية وتنويعها، الخيار الوحيد الممكن لإبراز لا محدودية الصمود الفلسطيني. ونتصوّر أن مواجهة العنف والقتل والهدم والحرق والتجويع والمحاصرة والعزل، وجرائم الحرب كلّها، التي يعاين العالم ومنظّماته الدولية أطوارها المرعبة والمخيفة في قلب الأرض المحتلة، تدعو إلى ذلك. يتيح تنويع طرائق المقاومة للفلسطينيين وللأحرار في العالم محاصرة بعض أوجُه الجنون الصهيوني الغربي، ويسمح بإمكانية وقف مخاطر عديدة أصبحت تهدّد المشرق العربي، وتهدّد العالم أجمع.
أتصوّر ونحن على أبواب سنة جديدة، أن هناك طريقاً واحداً لمزيد من احتضان شرارات المقاومة المتواصلة، يتعلّق الأمر (أولاً وأخيراً) بمزيد من التفكير في متطلباتها ومقتضياتها، ومزيد من تحسين شروطها، ففي التاريخ والسياسة لا يُستعاد المأمول من المفردات والأفعال بالتمنّي، بل يُستعاد بالمواجهات الجديدة المناسبة للتحوّلات الجارية، استعادة المقاومة المناسبة لمقتضيات فعلها المتواصل، لتعكس في كلّ القرى والمدن الفلسطينية، خلال أشهر وأيام العام الجديد، مضامين مرتبطة بتحوّلات القضية في التاريخ، ولتحمل أحرُفها مُجدّداً تطلّعات الأجيال الجديدة في فلسطين، من أجل مواجهة الغطرسة الإسرائيلية، وقد مارست وتُمارس كثيراً من تضييق الخناق على الفلسطينيين بمواصلتها عمليات الاستيطان والضمّ، ومواصلتها عمليات توسيع دائرة الأنظمة العربية المُطبّعة، متناسية مع من يسندها من القوى الدولية أن الشعوب العربية لا يمكن أن تُطبّع مع الصهيونية وخياراتها المتوحّشة.

 

المصدر: العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى