على أطراف لبنان الشمالية ثلاث بلدات يتفاخر سكّانها بجذورهم التركية، كثيرون منهم يجيدون العثمانية القديمة، البلدات هي الكواشرة وعيدمون والبيرة. الأولى زارها أحمد دوواد أوغلو، حين كان زيراً للخارجية التركية، في عام 2009، ثمّ أتاها رجب طيّب أردوغان رئيساً للوزراء بعد ذلك بعام واحد. وفي الجنوب اللبناني، تشارك تركيا بوحدة عسكرية رمزية قوامها 97 ضابطاً وجندياً في إطار القوات الدولية، فيما تتمثّل “القوة الناعمة” التركية في رعاية وتمويل جمعيات عدّة منتشرة في محافظات الشمال، ناهيك عن “المستشفى التركي” في مدينة صيدا، ثالث المدن اللبنانية تأثيراً وفاعلية.
ظلّ هذا الحضور التركي في لبنان خافتاً إلى ما قبل التطوّرات الجذرية السورية في الثامن من الشهر الجاري (ديسمبر/ كانون الأول)، حين سقط نظام بشّار الأسد ودخل المعارضون دمشق. وإذ لا يخفى على أحد حجم الإشراف السياسي والأمني التركي على الأوضاع السورية الحالية، فالسؤال اللبناني الأبرز غداً متمحور حول استشراف سلوك تركيا حيال لبنان، بعدما أصبحت جارته في الجغرافيا والسياسة والأمن.
هناك هاجس لبناني حيال صيانة الحدود مع سورية من قلاقلَ محتملةٍ مع قرى وبلدات لبنانية محاذية للجوار السوري
من بين طيّات ذاك السؤال يطلّ هاجس لجوء “المعارضين الجدد” السوريين إلى لبنان، وهو أمر لطالما عانى منه اللبنانيون منذ أول انقلاب عسكري عرفته سورية عام 1949، حين انقلب حسني الزعيم على شكري القوتلي وخالد العظم. آنذاك هدّد الزعيم بإرسال خمسة آلاف جندي سوري إلى لبنان إذا أتاح الأخير مساحةَ لجوءٍ للهاربين من انقلابه. ومع تكرار تبدّلات الحُكم والانقلابات والمعارضات في سورية، كان على لبنان أن يتحمّل أعباء وأثمان اللاجئين السياسيين السوريين إليه، وفي كتابات ميشال عفلق وأكرم الحوراني ونذير فنصة ومحمد معروف وسامي الجندي وهاشم عثمان ونبيل الشويري وغيرهم، ما يفيض عن تحوّل لبنان ملاذاً للمُنقلَب عليهم في دمشق، وقد لا يشذّ هذا المشهد عن تاريخ سوري مضى، فما عسى أنقرة فاعلة في الحالة السورية المُستجدّة إذا ارتأت الإدارة السياسية الجديدة في دمشق فتح ملفّات سوريين هاربين إلى بيروت؟ أو عمدت إلى مطاردة هؤلاء وقتلهم، مثلما جرى مع اللواء سامي الحنّاوي، الذي اغتيل في بيروت عام 1950؟
وإلى ما سبق ذكره، يضاف الهاجس اللبناني حيال صيانة الحدود مع سورية من قلاقلَ محتملةٍ مع قرى وبلدات لبنانية محاذية للجوار السوري أو جرّاء تداعياتٍ ناجمةٍ عن اضطرابات في الداخل السوري، وانتقال ارتداداتها إلى شمالي وشرقي لبنان المعروفَين بتعدّديتهما الدينية والطائفية. وإزاء ذلك ما المسار المرجّح الذي ستخطوه تركيا، أيكون عبر استخدام قوة “القرار الغليظ” بحصر القلاقل في الأرض السورية بهدف احتوائها، أم باعتماد سياسة التغافل المؤدّية إلى خلاصة قائلة بـ”خروج الأوضاع عن السيطرة”؟
في واقع الحال، يأملون في بيروت بأن تضبط تركيا الحدود اللبنانية السورية، وفي هذا السياق جاءت زيارتا رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، والمرشد السياسي للحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط، إلى أنقرة، ويحدو أمل ذو أفق بعيد بأن ترعى العاصمة التركية ترسيم/ تعيين الحدود بين لبنان وسورية، وكذلك هو الأمر مع الحدود البحرية، إذ تبدو تركيا مستعجلةً في هذا الشأن، وعلى ما قال وزير النقل التركي عبد القادر أورال أوغلو (“بلومبيرغ”، 23/12/2024)، إن بلاده “عازمة على خوض مفاوضات مع سورية لترسيم حدودها في البحر المتوسّط”، وإذا انطلقت مثل هذه المفاوضات، عاجلاً أم آجلاً، فالافتراض يوجب إشراك لبنان في ترسيم حدوده البحرية، بعدما غدا جاراً لتركيا، كما مرّ القول وسلف.
وإذ نأت تركيا، كما يقول كبار قادتها، بأثقال النزوح السوري، الذي تجاوزت أرقامه ثلاثة ملايين شخص، فالأثقال المترتّبة على لبنان، جراء النزوح إياه، تفرض على لبنان تنسيقاً عالي المستوى مع “الجارة الجديدة”. ووفقاً لما يقال في بيروت، إن اتجاها لبنانياً قيد النقاش لا يستبعد الدفع نحو تشكيل لجنة مشتركة لبنانية تركية للبحث في مستقبل النزوح السوري، على أن تتقاطع مهمّاتها في صياغة خطّة شبه مشتركة لتسهيل عودة النازحين السوريين إلى ديارهم.
وفي مقابل تلك الطموحات اللبنانية، تبرز اتفاقيات التعاون الثلاثون الموقّعة بين بيروت وأنقرة، ولعلّ أكثرها أهميةً اتفاقية عام 2010، التي تتشعّب إلى ما هو صحّي وزراعي وإلغاء تأشيرات الدخول والرسوم الجمركية وإقامة منطقة تجارة حرّة، وهو ما رفع قيمة التبادل التجاري بين البلدين إلى ما يقارب ملياراً ونصف مليار دولار في السنة الواحدة، كما أبدت تركيا (بعد عام 2019) استعدادها للمساهمة في مجموعة من المشاريع الاستراتيجية المتراوحة بين إعادة إعمار مرفأ بيروت والبنى التحتية وإصلاح القطاع الكهربائي، مثلما صرّح وقال أردوغان خلال لقائه (في أنقرة) نجيب ميقاتي، في فبراير/ شباط 2022.
وبالنظر إلى الرغبة التركية المسبقة بتنفيذ مشاريع حيوية في لبنان، فالمُستجدَّات السورية، وما كشفت عنه من دور تركي فائض في إدارتها، تطرح على بساط البحث احتمال أن تعرض تركيا على اللبنانيين تحويل الرغبة أفعالاً، وهو ما يمهّد لعلاقة غير مسبوقة بين بيروت وأنقرة، ولن تقتصر مفاعيلها على العاصمتَين في حال جرى تجسيدها، فدمشق ستكون حاضرةً في هذه المعادلة المتحوّلة إلى ثلاثية، وبصورة تصبح معها سورية ولبنان مجالاً حيوياً اقتصادياً لتركيا، إذا استطاعت احتواء مضاعفات التحوّلات السورية، وبحسب هذه الصورة يتوسّع المجال الحيوي الاقتصادي التركي، من أذربيجان في الشرق إلى سورية ولبنان في الجنوب، فضلاً عن الساحل السوري، الممتدّ في طول يبلغ 180 كلم، وفي الساحل اللبناني وطوله 210 كلم، وبإضافة الساحل الليبي ذي الطول البالغ 1770 كلم (أو نصفه على الأقلّ) إذا اقتصر الحديث على الاتفاقيات الموقّعة مع حكومة طرابلس الغرب، وكذلك الحال مع ساحل الشمال القبرصي، وبهذا المشهد تُمسي تركيا واحدةً من أكثر الدول نفوذاً في محيط البحر الأبيض المتوسّط.
قد تُشكَّل لجنةٌ مشتركةٌ لبنانية تركية تتقاطع مهمّاتها في صياغة خطّةٍ لتسهيل عودة النازحين السوريين إلى ديارهم
ما نصيب رجال الأعمال اللبنانيين في هذا المشهد التركي الواسع؟… هذا السؤال تقبع إجابته في مدى القدرة التركية على إدارة الواقع الأمني في سورية، ولجم التفلتات أو النزاعات المحتملة، وعلى ما يظهر أن أصدقاء رجب طيّب أردوغان الكُثر في لبنان، ومن بينهم الرئيسان نجيب ميقاتي وسعد الحريري، وآخرون قد لا يكونون بعيدين من شراكات استثمارية لبنانية تركية، في سورية ولبنان وأبعد منهما، وحديث الشراكات المذكورة ترتفع وتيرته يوماً تلو آخر في بيروت.
إن هاجس الأمن يثقل اللبنانيين من ناحيتَين، شمالاً وشرقاً من سورية، وجنوباً من الاحتلال الإسرائيلي، حيث تتضاءل نسبة الضمانة بالتزام بنيامين نتنياهو بوقف الأعمال القتالية طِبقاً للقرار 1701، جرّاء الخروقات الإسرائيلية اليومية التي تجاوزت 816 خرقاً، حتى 12 من شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وهذا الهاجس يستقدم سؤالَين مفادهما أي دور لتركيا سيكون إذا تنصّلت تلّ أبيب من موافقتها على القرار الأممي وعادت إلى نصابها العدواني على لبنان جار تركيا الجديد؟ ومن جهة أخرى، هل يمكن أن ترعى تركيا حواراً لبنانياً سورياً انطلاقاً من قول تركي مأثور استشهد به أردوغان حين زار بيروت قبل 14عاماً، ومضمونه: لا تأخذ بيتاً بل خذ جاراً؟
يبقى في آخر المطاف القول إن تركيا أصبحت في داخل البيت السوري المجاور للبنان، فهل في جدول أفكارها وخططها ما ينمّ عن معالجة الملفّات الكثيفة والمعقّدة بين اللبنانيين والسوريين، أصحاب الجغرافيا الواحدة والحضارة الواحدة والمصير المشترك؟
المصدر: العربي الجديد