هل قرأ أحدٌ ما على مسامع الأسد الأب ومن بعده الابن، عبارة الأديب الإيطالي “دانتي أليغيري” مؤلف الكوميديا الإلهيّة: “أيها الداخلون هنا. تَخَلّوا عن أي أمل” التي تخيّل أنها كُتِبت على بوابة الجحيم؟ لست متأكّداً. لكن ما هو غير قابل للشك لديّ، أن كليهما كتبا تلك العبارة، أو مايشبهها على بوابة “سوريا الأسد” منذ نصف قرن، ولم تتحطم حروفها سوى قبل أسبوعين.
قبل سنوات، في يومي الجامعيّ الأول، في كلية الاقتصاد، وبّخنا الدكتور (سيصبح بعد سنوات وزيراً) أنا وعشرات الطلاب الجدد، مع بداية محاضرته الأولى، لأن أي أحد منا لم يرفع يده، عندما فاجأنا بالسؤال: من منكم قرأ الدستور السوري؟ متسائلاً باستنكار شديدٍ بعدها: أي مواطنين سوف تكونون، بينما لم تقرؤوا دستور بلدكم!
اليوم بعد انتظار طويل، سقط نظام الأسد، ومن بين آلاف الأشياء التي سقطت معه، كان الدستور. الدستور الذي لم ينتفع السوريون منه، رغم أن رأس النظام لم يقرأه وحسب، بل وفصّله بنفسه، لكنّه لم يطبق أياً من مواده، لا خلال السنوات الدموية الماضية، ولا حتى خلال عقود حكم الأب. سوريا التي كانت تسير بدستورٍ أقل ما يمكن وصفه بأنه مجرد حبر على ورق. يجب ألا تتعجّل اليوم باعتماد دستور كيفما اتفق. بل دستور يقرّه السوريون ويكون لهم رأي فيه، وهذا يحتاج إلى نقاشات طويلة, وقد يكون من المناسب اليوم إقرار بعض المبادئ الدستورية المؤقته المُتوافق عليها، ريثما يتم إقرار الدستور المنشود بعد سنتين.
في لحظات الولادة الجديدة التي تعيشها سوريا، نحتاج أكثر من أي وقت آخر لتثبيت أمر احترام إرادة السوريين. عبر تعزيز فكرة بالغة الأهمية وهي أن هذه الإرادة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال أصوات السوريين، وعبر انتخابات دورية، مع احترام التمثيل الذي ينتج عن صندوق الانتخابات، وبالتأكيد مع وجود دستور لا يغفل حقوق الذين لن يمكّنهم صندوق الاقتراع من إنتاج أكثرية قادرة للوصول إلى السلطة. إضافة لاحترام الحريات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات التي نصت عليها المواثيق الدولية. ومن دون ذلك، فلا شرعية لمن يمكن أن يدّعي أنه يمثل المصالح الوطنية العليا، أو حتى أنه يمتلك الحق الإلهي للحكم. حسناً، أنت تعطي لنفسك هذه المشروعية، ولكن على الناخبين أن يؤيدوها.
مئات الملفات الشائكة الآن بانتظارنا بعد سقوط النظام، اقتصادية واجتماعية وسياسية، ولكن أهمها اليوم ملف الأمن والسيطرة، بهدف عدم الذهاب بعيداً بأية حالات انفلات عنفيّة، قد تعمق الجرح السوري الدامي أصلاً، وبما يقنع جميع السوريين المجروحين بترك سلاحهم، فالعدالة لا الثأر والانتقام هي ما سوف تعيد لهم حقوقهم، ولو معنوياً على الأقل. عبر الاقتصاص من القتلة واللصوص، وترسيخ مبدأ أن لا أحد بمنأىً عن العدالة، وكل سوري مهما بلغ شأنه، سوف يكون تحت سقف القانون، ما يمهّد الطريق لتحويل أحلامنا عن سوريا إلى واقع.
على المدى الطويل يجب تفعيل آليات تجعل السوريين يتخلصون مع الوقت من كل رواسب النظام ومفاسده، بدءاً من أخلاقيات العمل، وصولاً إلى حس الانتماء الوطني الحقيقي، وإلى جعل مبدأ المساءلة جزءاً من ثقافة المجتمع. والمساءلة هنا لا تعني الشكل الاتهامي بقصد المحاسبة، وإنما بصفتها سلوكاً طبيعياً، يقدِّم فيه من هو في موقع المسؤولية بشكل شفاف المعلومات عن عمله وكيفية إدارته، مع شعور السوريين جميعاً أن هذا من حقهم، وهم ينتقلون من دولة المافيا والإقطاعة والمزرعة إلى دولة المؤسسات. كي لا نعود لمشاهدة الصور التي نشاهدها اليوم.
تدوالت مواقع إخبارية سورية قبل أيام، مقاطع مصورة لسوريين يجمعون مادة المازوت من الأرض، بواسطة قطع القماش والإسفنج، ويحاولون تجميعها في أوعية بلاستيكية. كان الخبر أن صهريجاً للوقود انقلب على مداخل دمشق. لم يخطر في ذهني، وأنا أشاهد تلك الصور المُحزنة، سوى أنني أرى كامل “سوريا الأسد”، وقد تركها المجرم بعد أن أوصلها إلى حال يتطابق تماماً مع ذاك الصهريج المحطم والمقلوب. وأن السوريين الذين تركهم المجرم للفقر وحتى للجوع، هم هؤلاء الذين يحاولون جمع بقايا ما سُفح من الوقود على الأرض، ليدفئوا به أولادهم، أو ربما ليبيعوه، فيطعمون أولئك الأبناء.
ومن بين كثير من الصور، تابعتُ الأمهات اللواتي يبحثن عن أبنائهن بدموعهن في سجن صيدنايا. ظهر مقطع مصور لامرأة عجوز كانت تأمل أن تجد أبناءها الأربعة في ذاك السجن الإجرامي، ولمّا خاب أملها، حملت عل كتفها واحداً من حبال المشانق التي خلّفها القتلة هناك، لتعود به مع صور الأبناء في يدها إلى البيت، بدلاً عن أبنائها الذين ابتلعتهم مع عشرات الآلاف، وحشية سجون الأسد. كانت تردّد “شايفين مشنقة السوريين؟ هاي مشنقة ولادنا”. هذه التراجيديا التي تضاهي أي خيال روائي أو سينمائي يمكن أن يخطر على البال، هي سوريا التي سيحاول السوريون اليوم إعادة بنائها وإخراجها من هذا القاع المريع.
بالعودة إلى الأستاذ الذي وبخني في يومي الجامعي الأول، فقد سرَت كثير من الأقاويل بعد أن أصبح وزيراً، بأنه كان فاسداً كمعظم وزراء الأسد. أما عني شخصياً، وبعد شعوري المؤقت بالخجل لتقصيري بمعرفة دستور بلادي، فإنّي تعافيت سريعاً، بعد أن قفز إلى ذهني السؤال الأهم: لماذا سأقرأ دستوراً لم يحترمه ولم ينفذ بنوده واضعوه؟
المصدر: تلفزيون سوريا