مع سقوط نظام بشار الأسد رسميًا في فجر الثامن من ديسمبر/كانون الأول الجاري، يدلف المجال العربي والشرق الأوسط إلى حقبة مثيرة لا تزال قسماتها تتشكّل.
يمكن القول إن سقوط النظام السوري إيذانٌ بأفول مشاريع إمبراطوريةٍ متداخلة. خلعت سورية على روسيا “عباءة الإمبراطورية”. كانت روسيا دولة عظمى تُجهز الحملات العسكرية وتبعثها إلى ما وراء البحار، وتقاتل إلى جانب حليفها وتحسم له معركة بقائه التي ما كان ليحسمها لولاها، ثم إنها تملك قواعد للأساطيل والطائرات على البحر الأبيض المتوسط، محققة بذلك حلم جنرالات روسيا القديم أن يكون لبلادهم موطئ سُفُن في ذلك البحر الذي حُملت عليه الجيوش والبضائع والأديان والأفكار منذ مهد الحضارة. تشبّث بشّار الأسد بروسيا منذ 2011، ثم سقط ساحبًا معه عنها عباءة الإمبراطورية ليتطابق شكل روسيا مع حقيقتها العارية، وهي أنها مجرّد دولة كبيرة في الإقليم الأوروبي، تُكابد في أوكرانيا، كي تحفظ هيبتها وأمنها.
أما إيران فكانت سورية مرتكز حُلمها الإمبراطوري، رغم أنها آخر ما احتجنته من بلدان المشرق العربي. صحيحٌ أن العراق يبقى رئة أي مشروع توسّعي إيراني منذ الإمبراطورية الفارسية الأولى وفتح قورش الأكبر بابل في القرن السادس قبل الميلاد، ولكن سورية هي الممر العظيم وملتقى خطوط المشروع الإمبراطوري، وبها امتد نفوذ النظام في إيران، من الهضبة الإيرانية وصولاً إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط. علاوة على أن حزب الله في لبنان، درّة وكلاء إيران والمشرف عليهم، كان يتصل بالمركز الإيراني عبر سورية، منذ البدايات في مطلع الثمانينيات وصولًا إلى الثامن من ديسمبر/كانون الأول الجاري. ليس صحيحًا أن إيران فقدت مشروعها بالضربة القاصمة التي ألحقتها إسرائيل بحزب الله في حربها أخيراً على لبنان؛ كان بالإمكان تخيّل إعادة بناء حزب الله، رغم كل ما أصابه إذا نجّت إيران نفسها من السعار الإسرائيلي، ولكن مسألة إعادة تأهيل حزب الله إلى وضعه السابق أضحت، بعد إسقاط نظام الأسد، دونها صعوباتٌ لا تنتهي، وتكاد تكون مستحيلة بدون رضى حُكّام سورية الجُدد. ولهذا فقدت إيران بضياع سوريّة من يدها ما سمي إسرائيليًا “طوق النار” حول إسرائيل، كما فقدت نصف القوس الذي كان يحاصر الخليج العربي من الشمال.
تاريخ الوطنيّة السوريّة هو تاريخ التمايز عن القوميّة التُّركيّة ورفض التتريك، والمعنى المعاصر لهذا البعد التاريخي أن النديّة مع تركيا من مكوّنات الوطنيّة السوريّة
من جهة أخرى، من الطبيعي أن أي نظام سوري قادم سيرى في النفوذ الإيراني في العراق تهديداً لا يمكن التهاون معه، وبالتالي، أضحت السيطرة الإيرانية على العراق أشدّ صعوبةً، بعد أن ذهب التعاون السوري الذي لعب دوراً في استقرارها. ثم إن إيران ضَحَّتْ قَصْدَ حيازة سورية بالنفيس من خبراتها العسكرية وكثير من الأموال (تُقدرها وسائل إعلام إيرانية بـ30 مليار دولار) على أمل الحصول على مردودٍ في البعيد الآجل، وها هي اليوم تخرُج مثخنة بالخسائر، وهي في وضع اقتصادي صعب بالأساس. ومفاعيل هذه الخسارة الاستراتيجية والاقتصادية مضفورة بصعود ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، وتحفّز إسرائيل للانقضاض على المنشآت النووية الإيرانية يضع استقرارَ النظام، الهشَّ بالأساس، تحت خطرٍ داهم. علينا أن نتذكر هنا الاتفاق النووي في عام 2015، لندرك حجم الخسائر الاستراتيجية الإيرانية بفقدان سورية. كان بقاء إيران في المشرق العربي أحد المكافآت التي قدّمتها إدارة أوباما لإيران في مقابل التخلي عن البرنامج النووي الإيراني. أما وقد تحرّرت سورية من نظام الأسد، فلم تعد ورقة التفاوض الإيرانية إلا خِرقة لا تنفع صاحبها بشيء.
انكمشت روسيا إلى حقيقتها، وتهاوت الشطحة الإمبراطورية الإيرانية، التي كانت، منذ البداية، تفوق إمكانات إيران وقدراتها، بلداً وشعباً، وهذا يقترح أن ثمّة فراغاً في قلب هذه المنطقة الخطيرة يجب أن يُتدارَك سريعًا. لقد دفع العرب أثماناً مروّعة حين تلكّأوا في ملء الفراغ الذي تركه سقوط نظام صدام حسين على يد الاحتلال الأميركي، وأتت إيران لملئه، ولا نزال عَرَباً ندفع ثمن ذلك الخطأ القاتل.
ما بنته إيران طوال 40 عاماً في المجال العربي بإمكان السعودية أن ترثه في بضع سنين، وبشكل صحيح وأخوي
من يريدون لعب الدور الحاسم في سورية كثر: ثمّة إسرائيل، وهي، بإخلاص لجوهرها دولةَ احتلال واستعمار، لا تفهم ملء الفراغ إلا بالمعنى الفيزيائي؛ أي أن تحتلّ الأرض كما تفعل حالياً بتوغّلها في القنيطرة السورية. وبالتالي، رغم عتوّها العسكري لا تُحسن أن تكون دولة ذات نفوذ ولن يقبل بها السوريون. وهناك الإمارات، وهي عربيًا ذات سمعة معروفة: لا تحوز النفوذ إلا بدعم المليشيات، وفوق ذلك ريادتها للتطبيع مع نظام الأسد، ثم وقوفها المستميت معه في لحظاته الأخيرة، يجعلانها طرفًا يمكن التعاون معه سورياً، ولكن بتحوُّط؛ خاصة وأن الإمارات، رغم قوتها المالية، تبقى دولة صغيرة بلا أبعاد استراتيجية تسمح لها بلعب أدوار كبيرة في دول مستقرّة. وثمة تركيا، وهي، بالجغرافيا والتاريخ، شريك ممكن، ويمتلك أدوات تؤهله للعب دورٍ مؤثر في سورية الجديدة، ولكن ثمة حواجز اللغة والهواجس القوميّة التركية. علاوة على أن تاريخ الوطنيّة السوريّة هو تاريخ التمايز عن القوميّة التُّركيّة ورفض التتريك، والمعنى المعاصر لهذا البعد التاريخي أن النديّة مع تركيا من مكوّنات الوطنيّة السوريّة. الطرف المؤهل لمؤازرة سورية وقيادة الدعم الدولي لإعادة إعمارها هو السعودية. إنها لا تمتاز بالقوة الاقتصادية فحسب؛ هي دولة ضخمة وتحوي الأماكن الإسلامية المقدّسة، وقبل هذا وبعده هي دولة عربيّة، بإمكانها ترجمة المشترك الثقافي إلى نفوذ سياسي يحترم الدولة السوريّة بدون أن تثير حساسيّات مبدئيّة.
القيادة السعودية الآن أمام مفترق طرق؛ فما بنته إيران طوال 40 عاماً في المجال العربي بإمكان السعودية أن ترثه في بضع سنين، وبشكل صحيح وأخويّ، إذا سبقت الجميع سريعاً، ويسّرت ولادة سورية الجديدة الموحدة المستقرّة، وألقت بثقلها وراء السوريين في مرحلة الانتقال الخطرة، وقادت عمليات إعادة الإعمار، وأقنعت برجوازيتها والدول بالاستثمار في سورية. بالشراكة والتفاهم مع سورية، سترجّح السعودية كفتها في الإقليم، وهذا سيظهر في علاقتها بالعراق، واستعادة نفوذها القديم في لبنان، بل ومضاعفته مع انقطاع الشريان الإيراني عن لبنان. حينها، سيكون على كل القوى اللبنانية، وفي مقدّمتها حزب الله، التفاهم مع السعودية ومراعاة مصالحها.
كان ترك العراق لإيران بعد الاحتلال الأميركي خطأً كبيراً، وإن لم تراجع القيادة السعودية مآلات سياستها في العقد الماضي، ابتداءً من اليمن وصولاً إلى مصر، ولم تقتنص هذه الفرصة سريعًا في سورية، رغم استعدادها الموضوعي لذلك، فإنها لن ترتكب خطأ، بل ستقترف خطيئة بحق مستقبلها التنموي وأمنها الوطني، وبحقّ مستقبل المشرق العربي كله.
المصدر: العربي الجديد