دروس من انهيارِ النظامِ السوري

مهنّد ذويب

إذن؛ انهارَ النّظامُ المنهارُ أصلاً، بعدَ أنْ أصبحَ بشار الأسدُ، الطاغيةُ الذي مِن ورق، عبئاً ثقيلاً على حلفائه وأعدائِه. وليس مبالغةً القولُ إنّ بشار رفع سقف التوحش في العالمِ العربيّ، مُقدماً أنموذجاً أكثر توحشاً من مجازر والده في الثمانينات بحقِّ السوريين واللبنانيين والفلسطينيين. إنه يتحمّل مسؤوليّة كلّ ما جرى، بشكل مطلق، فهو الذي دفع الثورة إلى العسكرة، وفَتَّحَ الأبوابَ لأن تتحوّل الأراضي السوريّة إلى مرتعٍ للمليشيات والدول والأحزاب والتحالفات والأموال، مقابل بقائه في كرسيّ حكم بقايا سورية، وبقايا اقتصادها، وعلى مساحة لم يستطع، هو ونظامه، أنْ يوفّروا لها الكهرباء، وفي دولةٍ وهميّة لا يستطيعُ اتّخاذ قرارٍ فيها. وإذ انتهتْ الحقبة الطويلة لحكمِ عائلة الأسد، تجدُ سوريّةُ نفسَها أمام حلمِها المُحقّق، الذي تأخرَ بعد آلافَ الشهداء والمصابين والأسرى والنازحين والغرقى في المتوسّط، لكنّها تدركُ، في الآنِ نفسه، أنّ هذا الحلم تحفّه عشرات التحدّيات، تبدأ من “انهيارِ اتّفاق فضِّ الاشتباك”، وتوغّل جيش الاحتلال في سورية، وتمرُّ بسوء نيات التصريحات الإسرائيليّة، ولا تنتهي عندَ احتماليّات الفوضى والانزلاقِ أكثر إلى التقاسُمِ والتقسيم.

عمل “طوفان الأقصى” على “تعرية” النظام السوريّ، الذي ظنّ أنّ باستطاعته اللعب على الحبال كلّها، والنأي بنفسه ونظامه المتهالك عمّا يجري، فكانَ أنْ اتّخذ خطواتٍ لتحجيم حزب الله، واستوعبَ الضربات الإسرائيليّة كلّها من دونَ أنْ يفكّر بفتح جبهة إسناد حقيقيّة، كانَ يمكنُ لو تضافرت مع جهودٍ حقيقيّة أنْ تسهم في وقفِ العدوان على غزّة في وقتٍ مبكّر جدًا. كما أنّ من المنصِف القولُ إنّ طوفانَ الأقصى أظهرَ هشاشة ما يُسمّى “محورَ المقاومة”، الذي ورغمَ التضحيات التي قدّمها في لبنان، إلّا أنّ أهدافه المُعلنة التي تتخذ من فلسطين شمّاعةَ شرعيّة ليست هي أهدافه التوسّعية، ضمن لعبة النفوذ والسيطرة في المنطقة العربيّة، وانعكاساتها الاستراتيجيّة عليه. فالذي تسلّمَ السلطة من القوّات الأميركيّة في العراق، وسَحَقَ “المقاومة” العراقيّة، والذي ساهَمَ في حرقِ فلسطينيي لُبنان بعدَ الخروج من بيروت، كانَ لا بُدَّ له أنْ يسحبَ مفردة المُقاومة من سياقها التاريخيّ ليمنحها معانٍ جديدة، تمحو حمولتها الأصليّة وتتوافقُ مع أهدافه.

رفع بشار سقف التوحش في العالمِ العربيّ، مُقدماً أنموذجاً أكثر توحشاً من مجازر والده في الثمانينات بحقِّ السوريين واللبنانيين والفلسطينيين

في (درسِ) انهيارِ نظامِ الأسد بهذه الطريقة، ثمّة الكثير ليُقال، وثمّة الكثير أيضاً يحتاجُ التأني وعدم التسرع في إطلاق الأحكام والتصوّرات، لكن يجدُرُ الانتباه إلى أمورٍ أساسيّة أهمّها: عدمُ الانجرار وراءِ الخطاب الإسرائيليّ المُغرض الذي بَدا كأنّه يوحي بأن دولة الاحتلال هي الي أنجزت ما يحدث في سوريّة وسقوط نظام الأسد، منذُ تصريح نتنياهو قبل انطلاق عمليّة فصائل المقاومة السوريّة بعدّة أيام، وحتّى تصريحاته الأحد من الحدود مع سوريّة. وهي تسعى إلى بناء “ستيروتايب” في عقل المتلقي العربيّ، الجاهز للتلقي المشوّه، عن الفصائل السوريّة، بغرض إيجاد تمثّلات تربطها بالاحتلال الإسرائيليّ، بُغية تعميق الشرخ الطائفيّ المتعمّق أصلًا، و”شيطنة” هذه الفصائل. الأمرُ الآخر هو الفرحُ الحذِر بالتنظيم والانضباط والمسؤوليّة التي اتّخذتها الفصائلُ السوريّة المنضويّة تحت “إدارة العمليّات العسكريّة”، والتي قدّمت وتقدم رؤية مسؤولة ترومُ الانتقال الآمن إلى دولةٍ ديمقراطيّة، وإبقاء كيانِ دولة المؤسّسات. وهي انتقلت انتقالاً سلسلاً من الفكر الجهاديّ الذي طبعَ بعضَ فصائِلها فترةً إلى فكر الدولة المنظم، الذي يخدمُ الهدف الأساسيّ الذي انطلقت منه ولأجله الثورة السّوريّة، وإنّ أمامَ هذه الفصائِل مسيرةٌ طويلة لإعادة بناء سورية، ورفضِ تقسيمها إلى دويلاتٍ على أسسٍ طائفيّة وعرقيّة.

يجدرُ أخيراً النظرُ بازدراء إلى المآتمِ الجنائزيّة لبعضِ “المثقّفين)” بعدَ انهيارِ نظام الأسد، ففي مرحلةِ “الرداءة بالجملة…” هذه، يبحثون عن أيِّ طاغية يضعُون رأسَهُم تحتَ نعليه، ويخوضُون لأجلِهِ “حروباً دونكيشوتية”؛ تغطّي، وتصرفُ النظر، عن النقصِ الحادِّ في بلاغتهم الثقافيّة والأدبيّة، إن وجِدت أصلًا، والطاغية قد يكونُ شخصًا.. أو حزبًا.. أو مذهبًا، يوظَّفُ بالضلالة “للإنقاذ من الضّحالة”، فبعدَ أنْ كرّسوا جهدهم سنواتٍ للبحث في شعريّة البراميل المتفجّرة للطاغية، وفي التلطي بلفظة المُقاومة بمعانيها المُحوّرة، يقيمونَ الآن مأتماً تأبينياً يأخذُ من تصريحات نتنياهو وكيانه مرتكزاً للنّواح على انهيارِ نظامِ حزبِ “العَبَث” (لطالما عبِثَ بالفلسطينيين وقسَّمهم وموّل انشقاقهم، وعبثَ باللبنانيين)، وعلى هَرَب الطاغيّة (الكاريكاتوريّ) من دمشق. أمّا النواحُ الآخَر العجيب، الذي لا يمكنُ تناوله إلّا بالسخرية، فهو حالُ (بعضِ) الفلسطينيين، الذينَ يتلقون آراءهم المعلّبة عبر “الجيوبِ العميقة لمجموعاتِ واتساب”، والذينَ يفشلون في التفكير وفي الفعل والتغيير في آنٍ معاً؛ إذ انتقلوا من مرحلةِ اتّهامِ إيرانِ بتدمير المنطقة و”توريطِ” غزّة، والخطرِ الشيعيّ على السنّة (رغمَ علمانيتهم)، إلى مرحلةِ فضائِل بشّار وخطرِ الزحفِ الإخوانيّ. وهذا مما يتعذّر التعليقُ عليه.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى