عاش المواطنون الأتراك يوم الأحد 14 أيار/مايو، ليلة انتخابية طويلة لم ينته فيها فرز الأصوات إلا في ساعات الصباح الأولى، وإن كان منصب رئاسة الجمهورية لم يحسم لأي من المرشحين، علماً بأن الرئيس أردوغان قد حقق نجاحاً كبيراً بحصده نسبة كبيرة من الأصوات اقتربت من نصف الناخبين، إلا أن حزب العدالة والتنمية الحاكم قد تراجعت نسبة التصويت لقوائمه من %42 إلى نحو 35% من أصوات الناخبين، في حين أن حزب الشعب الجمهوري المعارض حصد زيادة مقدارها %2,73 من نسبة الأصوات و23 مقعداً إضافياً بالقياس على انتخابات 2018. وكان ملاحظاً صعود التيار القومي بمجموع يفوق 23% من أصوات الناخبين، مما ينبئ بصعود موجة يمينية قومية.
ونظراً لأن الانتخابات التركية الأخيرة قد حظيت باهتمام إقليمي ودولي كبير، فإنها تعتبر داخلياً معركة مصيرية ونقطة انعطاف مهمة بالنسبة للقوى السياسية التركية، ولا سيما أنها ستحدد مستقبل النظام، فهي ليست مجرد تنافس على السلطة بين أردوغان وخصومه، وإنما صراع لتحديد مستقبل النظام السياسي في تركيا وسيكون لها آثار مباشرة على مستقبل الصراع في سورية، ولذلك تنتظر قوى الصراع في الداخل السوري (قوى الثورة والمعارضة، قسد وتوابعها، وعصابات الأسد) مخرجات الانتخابات لكونها عاملاً رئيسياً حاسماً برسم سياسات الملف.
وإن كان ما ميز هذه الانتخابات عن غيرها، أن المهاجرين عامة والسوريين خاصة كانوا الوجبة الدسمة فيها للحملات الانتخابية، إذ أن عدد السوريين المقيمين في تركيا، بحسب أحدث إحصائية أصدرتها رئاسة الهجرة التركية بلغ 3,395,905 سورياً ممن يحملون بطاقة “الحماية المؤقتة” وهم واقعون في عين العاصفة الانتخابية كون جميع الأحزاب التركية تضع مفردة إعادتهم في رأس جدول أولوياتها، وتستخدمها جميع الأحزاب لمداعبة الشارع في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، مما يجعلهم شماعة سهلة التناول تحال عليها جميع المشاكل الاقتصادية في البلاد. لذلك فإن تحالف الأمة المعارض، ركز على ثلاث أهداف رئيسية هي: العودة إلى النظام البرلماني، وخفض معدلات التضخم، وترحيل اللاجئين السوريين من الأراضي التركية. بينما تحالف الجمهور كانت أهدافه: استكمال المشاريع الاستراتيجية الكبيرة، وفتح فرص عمل للشباب، وإعادة إعمار الولايات المتضررة من الزلزال، والعودة الآمنة للسوريين إلى بلادهم.
وفي الحقيقة فإن المعارضة وإن حصلت على الرئاسة فلن تستطيع ترّحيل السوريين بين ليلة وضحاها بسبب الاتفاقيات والمعاهدات التي وقعتها تركيا مع الاتحاد الأوروبي، لكنها تستطيع التضييق عليهم أكثر كي ترغمهم على المغادرة من تلقاء أنفسهم، وهذا ما بدأ السوريون يتلمسونه. لذلك سواء انتصرت المعارضة، وهذا ما لن يكون كما يبدو، أو انتصر التجمع الذي يتزعمه الحزب الحاكم، وهذا هو المرجح في انتخابات الإعادة لمنصب رئيس الجمهورية، فإن إعادة السوريين المهجرين إلى بلادهم هي عملية وقت، حيث صرح وزير الخارجية التركية بأنهم في صدد وضع برنامج وآليات لإعادة السوريين المهاجرين إلى بلادهم، دون التطرق إلى السبب الرئيس إلى تهجيرهم، وفيما إذا كانت هذه الأسباب مازالت قائمة أم أزيلت، وفيما إذا كان برنامج إعادتهم إلى وطنهم سيتضمن آليات الحل السياسي للقضية السورية وفقاً للقرارات الدولية وآخرها قرار 2254.
وإن كان هنالك شبه إجماع بين كل الأحزاب التركية على وضع الوجود التركي في سورية في إطار كونه من ضرورات “الأمن القومي التركي”، وبالتالي من الصعب أن يتغير هذا الإجماع، لكنه بالطبع سيتأثر على المدى البعيد في حال حدوث تغيُّر فعليّ أو كبير في الحكومة والرئاسة التركية. علماً بأن عملية تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، ستستمر بصرف النظر عن الجهة التي ستفوز في الانتخابات الرئاسية. فالحكومة الحالية تُركّز على بعض الشروط وتفاصيل أخرى، وإن كان من الناحية الإعلامية، أما إنْ حصل تغيُّر فإنّ عملية الانفتاح تبقى قائمة، ولكن تأتي في سياق آخر؛ إذ تميل بعض أطراف المعارضة للمضيّ في عملية الانفتاح أو التطبيع، وفي سياقٍ أقرب إلى الاعتذار عما مضى.
ويمكن ببساطة ملاحظة أن رضى السوريين عن توجهات حزب العدالة والتنمية قد تراجع في الآونة الأخيرة نتيجة لما بدر من الحكومة التركية في الأشهر الماضية من تصريحات وتلميحات، بل وبعض اللقاءات، التي تؤكد السير في عملية تطبيع العلاقات مع عصابات الأسد. إلا أن أهواءهم مازالت مع الحزب الحاكم كون المنافسين المحتملين لطالما عبروا عن مواقف متطرفة تجاه اللاجئين السوريين، وعن الجري نحو الأسد وعصاباته دونما قيد أو شرط. وقد يعزى جزء من تراجع بعض التأييد للحزب الحاكم، والرئيس الحالي، إلى الأوضاع الاقتصادية، والاعتراض على السياسات المتبعة، وخاصة السياسة المالية التي أثقلت كاهل السوريين كغيرهم من أبناء البلد الأصليين.
ولا يمكننا في خضم تقييمنا لانعكاس نتائج الانتخابات التركية الأخيرة، أن نغفل عن تأثير العملية الديمقراطية على الأجيال السورية التي لم تمارس الديمقراطية، أو التي تكوًن وعيٌها بعيداً عن سلطة الاستبداد، حيث كان الفساد والإفساد هو القانون المسيطر على الحياة العامة، أمّا المتحكّم الفعلي بها، فكانت الأجهزة الأمنية. ومن الطبيعي أن يٌذهل السوريون الذي هُجّروا، أو اختاروا تركيا للإقامة، من المساواة في ممارسة الحق الانتخابي، ناهيك عن السوريين الذين استقروا في بلاد ما وراء البحار، فالجميع يرى الكتل السياسية، والتحالفات، تصرّح وتختلف عبر برامجها الانتخابية والتصريحات الإعلامية، وهذه الحقوق لا تخص كتلة الحزب الحاكم، بل كذلك الأحزاب المعارضة.
لذلك تبقى أمنيتنا أن يتعلم السوريون العملية الديمقراطية، والتجربة التركية الأخيرة مثالاً رائعاً عنها. وإن كان طرح السؤال وارداً عن إمكانية أن نعترف بحق الآخر في الممارسة، والاختلاف، والدفاع عن رأيه، وبرنامجه، وحتى في الممارسة الدينية، قبولاً أو رفضاً، لنصل لمرحلة ضرورة عدم إشراك الدين في السياسة، إذ أن علاقة الدين بالسياسة والدولة، سيما بقضية ممارسة الديمقراطية والانتخابات أضحت قضية شائكة، وهناك نقاش كبير لم ينتهِ بأن الانتخابات التي توافق عليها القوى الإسلامية هي انتخابات المرّة الواحدة، أي توصلهم إلى الحكم، ومن ثم تتحكّم بالسلطة وبالعباد، وهذه عقدة يتوجب على النخب السورية الفصل فيها لأنها إحدى عوائق الشفافية والمصداقية للنخب في الثورة السورية.
المصدر: اشراق