الثورات والحروب والحركات الاجتماعية نقاط تحول كبرى في تاريخ الشعوب، تحمل في طياتها فرصاً عديدة للتغيير لكنها تأتي بثمن باهظ من الدمار والمعاناة، ورغم التحديات التي تواجهها الدول بعد هذه الأحداث، أثبت التاريخ أن النهوض ممكن إذا ما توفرت الإرادة السياسية والمجتمعية، ووجّهت الجهود نحو البناء والتحول الديمقراطي وأن الثقة في قدرة الشعب السوري على تجاوز الصعوبات تُعطي أملاً كبيراً بأن القادم سيكون أفضل للشعب السوري بكافة مكوناته.
بعد الثورات تجد الدول نفسها أمام مشهد معقد من الدمار المادي والانقسام الاجتماعي والفراغ السياسي، لكن النهضة تبدأ من لحظة مواجهة هذه التحديات بشكل عملي ومدروس، تتمثل في إعادة إعمار البنية التحتية وتعافي الاقتصاد وتفعيل المصالحة الوطنية كركيزة أساسية لضمان الاستقرار الاجتماعي، خاصة في الدول التي تعاني من انقسامات عرقية أو طائفية.
ولنا في تجربة جنوب أفريقيا نماذج ناجحة أثرت في عملية التحول الديمقراطي فقد أطلقت حكومة نيلسون مانديلا على سبيل المثال لجنة “الحقيقة والمصالحة” التي مكنت الشعب من مواجهة الماضي المعقّد من دون السقوط في معضلة الانتقام، ما أسهم في بناءِ مجتمع جديد على أسُس أكثر عدالة.
لنا في تجربة البوسنة والهرسك التي عانت من حرب مدمرة دروس نستخلصها، فقد استعادت استقرارها بعد تمكّنها من بناء أجهزة أمنية ضمنت سيادة القانون وحمت المواطنين ومكّنت القضاء من محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات..
وفي نموذج مشابه، يمكن للحكومة السورية القادمة تشكيل محاكم وطنية خاصة تعمل على جبر الضرر وتمكين العدالة كي تسترجع ثقة الشعب السوري في مؤسسات الدولة القضائية.
ومع خطوتيِّ الإعمار والمصالحة تأتي أهمية إصلاح المؤسسات الأمنية، ولنا في تجربة البوسنة والهرسك التي عانت من حرب مدمرة دروس نستخلصها، فقد استعادت استقرارها بعد تمكّنها من بناء أجهزة أمنية ضمنت سيادة القانون وحمت المواطنين ومكّنت القضاء من محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.
إنّ تاريخ المؤسسات الأمنية في سوريا خلال العقود الستة الأخيرة ملطخ بدماء الشعب السوري، ما أفقد الدور الحقيقي والمفترض لتلك المؤسسات، بعد استخدامها لخنق السوريين وإخراجهم من دور المواطن صاحب الحقوق إلى المعتقل المطالب بتمجيد رموز النظام الديكتاتوري والمجبر على السكوت والرضوخ دوماً، لذا أجد أن أكثر العواقب التي قد تُعيق أو تأخر عملية التحول الديمقراطي هي معضلة المؤسسات الأمنية وعلاقتها مع المواطن فإذا تم إصلاحها بالطريقة الصحيحة فلن تكون عقبة تؤخر سير الخطوات الآخرى.
كذلك، فإنّ التحوّل الديمقراطي بعد الحروب أو الثورات يتطلب خططاً مدروسة لإعادة بناء النظام السياسي على ركائز مثل العدالة والمساواة والشفافية فصياغة دستور يضمن حقوق المواطنين ويؤكد على فصل السلطات لتحقيق طموحات الشعب في الحرية والكرامة ويساعد على انتخابات حرة ونزيهة تشكل بدورها خطوة أساسية في بناء الشرعية السياسية للنظام الجديد.
وفي تجارب التحوّل الديمقراطي نجد أن شعب دولة تشيلي تمكّن من إنهاء حقبة الديكتاتورية العسكرية وارتكز في تجربته على تأسيس دستور ضمن الشرعية السياسية للحكومة، ما أتاح للدولة العودة إلى العمل وفق المسار الديمقراطي وإبعاد العسكر عن دائرة الحكم والسلطة، لأنّه من الممكن أن تتعرض تجربة التحول إلى صراع مباشر مع العسكر بعد الصراع مع الديكتاتورية ولتجنب هذا الصراع يجب أن يُحدد دور الجيش والعسكر دستورياً، لمنعه من التدخل في سير شؤون الحياة السياسية.
وللوصول إلى الديمقراطية وتجاوز أخطاء الماضي تحتاج الدولة والمجتمع إلى منظمات المجتمع المدني التي يكمن دورها في مراقبة وتعزيز أداء الحكومة وتفعيل مشاركة المواطنين في رسم مسار السلطة والحكومه في البرامج التنفيذية مع دورها المهم جداً في تطوير الفكر السياسي وتوضيح مفاهيم مثل الدولة والمجتمع والحكومة والسلطة وطبيعة سير العلاقة بينهم في أي دولة ديمقراطية.
كذلك، تحقيق العدالة الانتقالية من خلال محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وتقديم التعويضات لأهالي الضحايا والمصابين والمعتقلين، يمثّل عنصراً أساسياً لبناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وهناك دور مهم لمنظمات المجتمع المدني يكمُن عملها في التأكيد على أهمية حقوق الإنسان وضرورة تطبيق خطوات تقلل من نسبة الخطأ في محاكمة المتهمين بارتكاب انتهاكات بحق السوريين.
وتجربة الأرجنتين بعد الحكم العسكري تُظهر كيف يمكن للعدالة الانتقالية أن تضع أسساً لمستقبل أكثر استقراراً وتوافقاً، فبعد أن شهدت الأرجنتين فترة حكم سلطوي امتد إلى مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، نجحت منظمات محلية ودولية في توثيق الانتهاكات التي مكّنت الدولة من محاكمة كثير من مرتكبي التجاوزات في حق المعارضين اليساريين حينها.
ومن خلال تجربة فيتنام نجد أنه لا يمكن للديمقراطية أن تستمر أو أن تُنتج في بيئة من الفقر وعدم المساواة، ولتحقيق التحوّل الديمقراطي الحقيقي، تحتاج الدولة إلى تشجيع الاستثمار والإصلاح الاقتصادي، فقد تمكنت فيتنام من تجاوز آثار حربها الطويلة عبر تبني إصلاحات اقتصادية مكنت حرية السوق مما جعلها واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم.
من الخطوات المهمة والأساسية للحكومة السورية القادمة إضافة مناهج جديدة تتماشى مع التطور الحاصل في عالمنا، تشمل كل مراحل التعليم الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعات..
أيضاً، لم يتجاهل الكوريون الجنوبيون أهمية التعليم، فقد عانت كوريا الجنوبية من الدمار خلال الحرب الكورية، لكنها استثمرت في التعليم بشكل مكثف، ما جعلها اليوم قوة اقتصادية رائدة عالمياً.
ومن الخطوات المهمة والأساسية للحكومة السورية القادمة إضافة مناهج جديدة تتماشى مع التطور الحاصل في عالمنا، تشمل كل مراحل التعليم الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعات، ليس فقط الإضافة على صعيد المناهج، بل يجب أن يرافقها أيضاً الانتقال إلى التعليم عبر وسائل تعليم عالمية ومتطورة.
بعد كل هذا الخوض، نؤكّد على أن النهوض بعد الثورات والحركات الاجتماعية ليس مهمة سهلة معبدة الطريق لكنها مهمة قابلة للتنفيد والتطبيق، فكل ما يحتاجه الشعب السوري لإنجاح تجربته في التحول الديمقراطي هي قيادة حقيقية ومجتمع متماسك، يدرك أهمية المصالحة والإصلاح.
التجارب التاريخية تُثبت أن الشعوب قادرة على تحويل المعاناة والجراح إلى فرص أمل لبناء أنظمة سياسية أكثر عدالة وديمقراطية، وبقدر ما يكون الطريق مليئاً بالتحديات والصعوبات، يبقى الإصرار على أن العمل المشترك هو السبيل الوحيد للشعب السوري الشجاع للوصول إلى مستقبل أفضل يضمن حقوق الجميع.
المصدر : تلفزيون سوريا