في ورقة بحثية نشرها معهد واشنطن للدراسات قبل أيام، قالت الكاتبة الروسية المعارضة آنا بورشفسكايا: “يجب على المسؤولين الغربيين ألا يستهينوا بنفوذ موسكو عندما تتعاون مع الأكراد في سوريا والعراق ودول أخرى”.
وأضافت أنه “بينما يواصل الكرملين السعي وراء مصالحه في الشرق الأوسط بطريقة تهكمية، ووحشية، ومزعزعة للاستقرار في كثير من الأحيان، يتعين على الغرب اكتساب نفوذ أكبر في هذه المجتمعات الكردية”.
نصيحة يبدو أنها كانت قد وصلت بشكل مبكر للمسؤولين في الإدارة الأميركية، الذين تمكنوا أخيراً من تحقيق انجاز كبير وغير مسبوق على صعيد اقناع الأكراد في سوريا بأن واشنطن هي أفضل حليف لهم.
إنجاز يتمثل بتوقيع شركة أميركية اتفاقية لإنتاج النفط من الحقول التي تسيطر عليها قوات التحالف الدولي وقوات سوريا الديموقراطية (قسد) شمال شرق سوريا، الأمر الذي يحمل مضامين يتجاوز بكثير مجرد الأبعاد الاقتصادية.
وكان السيناتور الأميركي ليندسي غراهام قد أعلن الخميس، أن “قائد قسد مظلوم عبدي، قد أبلغه بأن الإدارة الذاتية وقعت عقداً مع شركة (ديلتا كريسنت اينرجي) الأميركية لاستثمار النفط في مناطق سيطرتها”.
الاتفاق ينص على انشاء مصفاتي نفط متنقلتين تنتجان 20 ألف برميل يومياً، بما يؤدي إلى سد قسم كبير من احتياجات الاستهلاك المحلي في مناطق سيطرة “قسد”، التي كانت تعتمد على مصافٍ بدائية محلية الصنع، وعلى ما يعيد النظام إرساله من مواد مكررة في مصافيه بعد توريد النفط الخام إليه، من خلال وسطاء عُرفوا باعتبارهم أثرياء حرب استفادوا من تجارة وتهريب النفط بين “داعش” و”قسد” والنظام. وسمحت الولايات المتحدة لهم بالاستمرار في القيام بهذه التجارة رغم إدراجهم في لوائح العقوبات المتتالية التي صدرت في السنوات الماضية، وفي مقدمتهم حسام قاطرجي ونادر الفوز وفواز الجابر.
وغراهام نفسه يعود له الدور المباشر في اقناع ترامب، بالعدول عن القرار الذي أعلن عنه في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 بالانسحاب من سوريا، مع إطلاق تركيا عملية “نبع السلام” ضد القوات الكردية على الجهة المقابلة من الحدود مع سوريا، وهو الأمر الذي استغلته روسيا على الفور لتعيد تقديم نفسها كحامية للأكراد.
قامت موسكو وقتها بما يشبه ملء الفراغ الأميركي، حيث نشرت المئات من قواتها في ريفي الرقة والحسكة للمرة الأولى بالتزامن مع الهجوم التركي، ونسقت مع أنقرة حدود عملياتها هناك، كما قادت تنسيقاً غير مسبوق بين النظام وحزب “الاتحاد” الديموقراطي، تم بموجبه إعادة انتشار بعض وحدات جيش النظام في مناطق سيطرة “قسد”، بالإضافة إلى إطلاقها مفاوضات بين القامشلي ودمشق، في ظل شعور كردي سلبي كان قد ساد تجاه واشنطن وقتها، والتي اعتُبرت أنها تخلت عن حلفائها الأكراد لصالح تركيا.
وعلى عكس الولايات المتحدة والدول الأوربية، لا تصنف روسيا حزب العمال الكردستاني كمنظمة ارهابية، بل إن موسكو قدمت الدعم للحزب خلال وبعد حقبة الاتحاد السوفياتي، كما تذكّر الأكراد باستمرار، بدعمها للجمهوريتين الكرديتين قصيرتي العمر اللتين أعلن عنهما في النصف الأول من القرن الماضي في إيران وأذربيجان، ودعمها مفاوضات الحكم الذاتي للاقليم الكردي في العراق منذ الخمسينات إلى أن أصبح واقعاً نهاية السبعينيات، للتأكيد على وقوف روسيا المستمر إلى جانب أكراد المنطقة.
لكن ذلك لم يمنع سيبان عابو، القائد العسكري لحزب الاتحاد الديموقراطي، من التهجم على روسيا واتهامها بخيانة الأكراد بسبب الخسائر التي منيت بها “قسد” خلال عملية “نبع السلام” رغم التنسيق معها لكبح جموح الأتراك.
بدا واضحاً للأكراد وقتها أن روسيا لا يمكن أن تفضلهم على النظام، وأن ما تسعى إليه هو استغلال الارتباك الأميركي لحظتها والهجوم التركي أيضاً، من أجل إرغامهم على توقيع اتفاقية مع دمشق بشروط النظام، إلى جانب استغلالهم كورقة ضغط على تركيا ليس أكثر، الأمر الذي أعادهم مجدداً إلى سكة الأميركيين.
عودة كانت موفقة، خاصة مع الانفتاح المتزايد الذي أظهرته واشنطن تجاه حزب الاتحاد الديموقراطي والذي تجلى بأربع نقاط أساسية:
الأولى: استضافة عدد من المسؤولين في الحزب في مقرات الإدارة واجتماعهم مع مسؤولين أميركيين، وفي مقدمة القادة الأكراد كان مظلوم عبدي، رغم الغضب الكبير من قبل تركيا.
الثانية: استئناف إرسال المزيد من القوات الأميركية إلى سوريا وتعزيز نقاط حماية حقول النفط والغاز التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية الكردية.
الثالثة: التغاضي عن ملفي الفساد وحقوق الانسان اللذين يسببان صداعاً مزمناً للإدارة الذاتية وقوات “قسد”، خاصة في ما يتعلق بالانتهاكات والتوزيع غير العادل للثروة والتمييز في الوظائف على أساس إثني.
الرابعة: منح الإدارة الذاتية الكردية سلطة التمتع بعائدات النفط والغاز من الحقول التي تقع تحت سيطرة قوات التحالف الدولي شرق سوريا، حيث تسيطر “قسد” حالياً على 80 في المئة من هذه الحقول.
لكن التوقيع على اتفاقية استثمار النفط يبقى هو الأهم على الإطلاق، بما يمثله من اعتراف أميركي غير مباشر بالولاية السياسية والقانونية للإدارة الذاتية الكردية على جزء من سوريا، يتجاوز شرعية النظام القانونية، وكل التنازلات التي يمكن أن تحصّلها روسيا للأكراد من قبل دمشق في أي مفاوضات.
لم يعبّر أي من أطراف الصراع الأخرى حتى الآن عن موقفه من هذا التطور المهم، المتمثل بتوقيع عقد استثمار النفط بين واشنطن والقامشلي، وما يحتويه من مؤشرات سياسية ضمنية، إذ ما زالت تركيا وإيران، وكذلك النظام، بالإضافة إلى روسيا طبعاً، تلتزم جميعها الصمت. لكن المؤكد أنه تطور سيدفع بهذه القوى المتنافسة أو المتصارعة على سوريا للتقارب أكثر من أجل إجهاض ولادة سلطة حكم ذاتي كردي جديد في المنطقة على غرار إقليم كردستان العراق.
المصدر: المدن