تخوض روسيا حربًا ضد أوكرانيا في غابات خاركيف، وسهول خيرسون، وبين تلال دونباس. لكن ساحة المعركة لا تقتصر على شرق وجنوب أوكرانا. لا تكتفي روسيا في حربها ضد الأوكرانيين باستخدام الصواريخ والقنابل الموجهة والدبابات والمدفعية فحسب، بل تولي اهتمامًا كبيرًا للجبهة الإعلامية.
بالنسبة للكرملين، تُعد الجبهة الإعلامية ذات أولوية قصوى، حيث تُخصص لها ميزانيات هائلة لها. في مشروع الميزانية لعام 2025، تم تخصيص 137.2 مليار روبل (ما يعادل 1.42 مليار دولار) للدعاية الحكومية. وبالمقارنة مع عام 2024، زادت النفقات على الإعلام بمقدار 15.9 مليار روبل أو بنسبة 13 بالمئة، وتجاوز حجمها الإجمالي الميزانيات السنوية لمناطق روسية متوسطة الحجم (على سبيل المثال، 135 مليار روبل في مقاطعة كالينينغراد و110 مليار روبل في إقليم بيرم).
تسعى موسكو إلى تشويه سمعة القيادة العسكرية والسياسية الأوكرانية في نظر الروس والمجتمع الدولي، وتقويض الثقة بها من قبل القادة الغربيين والأفارقة وقادة أمريكا اللاتينية وآسيا، وزرع الانقسامات داخل النخبة الأوكرانية، وإضعاف معنويات الشعب الأوكراني.
وفقًا للمعلومات التي تم الحصول عليها من مصادر مطلعة على النشاط الهجين الروسي في الخارج، يُلاحظ حاليًا تفعيل العمليات الإعلامية الروسية التي تهدف إلى تشويه سمعة رئيس أوكرانيا وقيادة مكتب الرئيس الأوكراني، بالإضافة إلى مسؤولين آخرين في القيادة العسكرية والسياسية الأوكرانية. نظرًا للفشل في تحقيق الأهداف المحددة لما يسمى “العملية العسكرية الخاصة” على ساحة المعركة، تخطط آلة الدعاية الروسية تحت قيادة سيرجي كيرينكو لإطلاق حملة إعلامية واسعة النطاق ضد أوكرانيا في المستقبل القريب، تتضمن تلفيق ونشر رسائل تلاعب وأكاذيب صريحة حول “عدم شرعية القيادة الأوكرانية”، و”عدم قدرتها على التفاوض”، و”رغبتها في القتال حتى آخر أوكراني”، و”تسامحها مع النازية”، و”دعمها للإرهاب الدولي”، و”الفساد الكلي في أجهزة الحكومة”، و”سوء استخدام المساعدات الغربية”، وغيرها.
نلاحظ في بعض وسائل الإعلام ظهور منشورات تخدم الدعاية الروسية، مما يدل على أن روسيا بدأت في قياس استجابات الجمهور المستهدف تجاه مختلف السرديات لتحديد أكثر المواضيع جذبًا للتفاعل.
من المتوقع أن تبلغ الحملة ذروتها عشية تنصيب دونالد ترامب وخلال الأشهر الأولى من توليه المنصب رسميًا. ويأتي تكثيف الجهود الدعائية في إطار محاولة عرقلة الحوار بين أوكرانيا والإدارة الأمريكية الجديدة، بهدف منع إنهاء الحرب بشروط غير مواتية لروسيا.
تشمل خطط الكرملين استغلال نفوذه بين السياسيين الأوكرانيين المعارضين والخبراء والصحفيين لاستفزاز التصريحات التي تنتقد فولودينير زيلينسكي وفريقه. تهدف هذه التصريحات إلى تعزيز السرديات الدعائية الروسية، مما يسهم في تعميق الانقسامات داخل المجتمع الأوكراني، ويوفر فرصة للدعاية الروسية للتلاعب بالإعلام الغربي عبر تصوير وجود “أزمة سياسية” في أوكرانيا.
وفي الوقت نفسه، لا يُستبعد أن تلجأ الأجهزة الأمنية الروسية إلى إجراءات راديكالية، بما في ذلك محاولات اغتيال شخصيات معارضة في أوكرانيا، بهدف إثارة المجتمع الأوكراني وتحفيزه على القيام بأعمال احتجاجية.
تهدف العمليات النفسية والإعلامية الروسية بشكل رئيسي إلى تصوير القيادة الأوكرانية كغير كفؤة، فاسدة، وعاجزة عن إدارة شؤون البلاد بفعالية. وفي الأشهر الأخيرة، سعت الدعاية الروسية إلى نشر روايات مضللة مثل: “رفض إجراء الانتخابات جعل الحكومة في كييف غير شرعية”، “الأمة الأوكرانية تواجه خطر الانقراض الكامل”، “زيلينسكي اشترى فندقًا في كورشوفيل بقيمة 88 مليون يورو”، و”ابن وزير الخارجية الأوكراني السابق اشترى عرشًا حديديًا من مسلسل “صراع العروش “وغيرها من الادعاءات.
في فبراير 2024، أجرت صحيفة واشنطن بوست دراسة حول أعلى مستويات القيادة الروسية المسؤولة عن إدارة الأنشطة التضليلية التي ينفذها الكرملين في الفضاء الإعلامي الخارجي.
ووفقًا للصحيفة، يتولى سيرجي كيرينكو، نائب رئيس الإدارة الرئاسية للاتحاد الروسي وأحد المقربين من فلاديمير بوتين، الإشراف الرئيسي على مثل هذه الحملات. وقد تم تأسيس مجموعتين مختصتين بالدعاية والتضليل تحت قيادته المباشرة.
ترأس الحملة التي تستهدف زعزعة الاستقرار داخل أوكرانيا أحد أقرب حلفاء كيرينكو، ألكسندر خاريتشيف، رئيس قسم رصد وتحليل العمليات الاجتماعية في الإدارة الرئاسية للاتحاد الروسي.
أما المجموعة التي تهدف إلى تقويض الدعم لأوكرانيا في الدول الغربية، فقد ترأستها تاتيانا ماتفييفا، رئيسة قسم تطوير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والبنية التحتية للاتصالات في الإدارة الرئاسية للاتحاد الروسي.
بالإضافة إلى الأشخاص المذكورين، تشارك بشكل نشط في الحملة التي تستهدف تشويه سمعة القيادة العسكرية والسياسية العليا في أوكرانيا جهات عدة تحت التنسيق العام لسيرجي كيرينكو. تشمل هذه الجهات منظمة “ديالوج” (حوار) غير الحكومية، واستوديو “أرتيمي ليبيديف”، بالإضافة إلى بعض الخبراء الروس في العمليات النفسية والإعلامية، الإعلاميين، خبراء العلاقات العامة والمدونين الموالين للحكومة.
تُعد منظمة “ديالوج” (حوار) غير الحكومية هيكلاً أُنشئ رسميًا في عام 2019 لتسريع معالجة القضايا التي يلجأ فيها المواطنون إلى السلطات. فإنها تتعامل مع إنتاج ونشر الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة حول الحرب العدوانية الروسية ضد أوكرانيا بهدف تعزيز الدعاية الكرملينية. كما تشرف المنظمة على إدارة حسابات العديد من الهيئات الحكومية الروسية، والمؤسسات التعليمية العامة، والدعاة مثل فلاديمير سولوفيوف على وسائل التواصل الاجتماعي.
بعد الغزو الشامل والغادر الذي شنته روسيا في عام 2022، شرعت منظمة “ديالوج” (حوار) في تحليل تفاعلات مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي مع الأخبار المتعلقة بالحرب، وتقديم توصيات لوزارة الدفاع الروسية حول كيفية التعامل مع الأحداث المثيرة للجدل.
تتحمل منظمة “ديالوج” مسؤولية نشر العديد من الأخبار الزائفة، منها ادعاءات بأن الجنود الأوكرانيين بدأوا بيع أوسمتهم على موقع “إيباي”، وأن مسؤولين أوكرانيين رفيعي المستوى يمتلكون عقارات فاخرة في سويسرا، بالإضافة إلى تقارير عن “وظائف مهينة” تُعرض على اللاجئين الأوكرانيين في بولندا، ومزاعم حول تجنيد النساء في أوكرانيا، وتوزيع حبوب تزيد من العدوانية بين الجنود الأوكرانيين. كما شاركت “ديالوج” في نشر منشورات تنتقد رئيس مجموعة “فاغنر”، يفجيني بريجوجين، الذي كان في صراع مع وزارة الدفاع الروسية.
في 28 يوليو 2023، أُدرجت منظمة “ديالوج” غير الحكومية في قائمة العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي بسبب نشرها للدعاية والمعلومات المضللة لدعم حرب روسيا ضد أوكرانيا. وفي 4 سبتمبر 2024، أدرجت الولايات المتحدة المنظمة ومديرها فلاديمير تاباك ضمن قائمة العقوبات بسبب “تأثيرها الضار” على الانتخابات الرئاسية لعام 2024.
أصبح فلاديمير تاباك معروفًا في عام 2010 بعد إصدار التقويم المثير للجدل يظهر صورًا لطالبات جامعة موسكو الحكومية بملابس داخلية، احتفاءً بالذكرى الثامنة والخمسين لميلاد فلاديمير بوتين. آنذاك، انخرط تاباك بنشاط في مشاريع فلاديسلاف سوركوف، نائب رئيس الإدارة الرئاسية للاتحاد الروسي حينها. وبعد استقالة سوركوف، أصبح سيرجي كيرينكو، النائب الأول لرئيس الإدارة الرئاسية للاتحاد الروسي، الراعي الجديد لتاباك، الذي تولى بدوره قيادة منظمة “ديالوج” تحت إشراف كيرينكو.
يظل دور استوديو “أرتيمي ليبيديف” في حملة تشويه سمعة أوكرانيا غامضًا إلى حد كبير. يُعتقد أن الوكالات الإبداعية التابعة لليبيديف تساهم في إعداد النصوص والمواد البصرية التي تدعم الجوانب الإعلامية لهذه الحملة.
اكتسب ليبيديف شهرة بصفته أشهر مصمم وأحد أبرز الشخصيات المثيرة للجدل في الإنترنت الروسي. ومع ذلك، منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم والغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، باتت تصريحاته تتماشى بشكل متزايد مع خطاب الدعاية الروسية.
أما الاتهامات الموجهة ضد استوديو “أرتيمي ليبيديف” بشأن إخفاء عقود حكومية كبيرة، إلى جانب العقود العديدة المتعلقة بإعادة تصميم المدن الروسية، ومترو موسكو، والحرس الوطني الروسي، فقد أثارها أليكسي نافالني منذ فترة طويلة.
ليبيديف هو مؤسس وكالة الإعلان على الإنترنت “ريكلاما.رو”، ومنذ أكتوبر 2023 يشغل منصب مدير التصميم في شبكة التواصل الاجتماعي “فكونتاكتي”. يُقال إنه مسؤول عن “إدارة تصميم منتجات الشبكة الاجتماعية وتطوير الأساليب المتعلقة بواجهات المستخدم”، بالإضافة إلى تطوير “الرؤية العامة لتصميم الشبكة الاجتماعية”.
يدعم ليبيديف بنشاط بوتين والحرب التي شنها ضد أوكرانيا. وقد زار عدة مرات شبه جزيرة القرم المحتلة والأراضي التي لا تسيطر عليها السلطات الأوكرانية في دونباس.
في عام 2020، شارك أرتيمي في تصوير فيديو دعائي حول التعديلات الدستورية الروسية لقناة” آر تي”، ومنذ يوليو 2021، أصبح مقدمًا لبرامج وسائل الإعلام الدعائية المذكورة.
من الواضح أن عمل ليبيديف في إدارة الرئيس الروسي لا يقتصر على نشاطاته العامة فقط. ففي عام 2020، حصل على وسام “للإنجازات الاستثنائية أمام الوطن” من الدرجة الثانية تقديرًا لإنجازاته في تطوير وتأسيس القطاع الروسي من شبكة الإنترنت.
في سعيه لتحقيق أهدافه، يستخدم الكرملين والدعاة الروس عدة أساليب للتعامل مع المقالات في وسائل الإعلام الدولية. أولاً، يتم اقتطاع العبارات من سياقها. ثانيًا، يتم تفسيرها بشكل مغلوط لتشويه المعنى الأصلي. ثالثًا، يتم تغيير الأولويات، حيث يتحول التحليل النقدي أو التعليق إلى اتهامات صريحة. رابعًا، يتم اختلاق الأكاذيب بناءً على منشورات غربية حقيقية.
في العالم الذي يخلقه الدعاة الروس، يُعرض مقال “فورن بوليسي” عن استنزاف أوكرانيا بسبب الحرب كدعوة من الغرب للقيادة الأوكرانية لوقف “الحرب العبثية”. كما تُعرض المنشورات في “نيوزويك” عن نقص الأفراد كدليل على “الاستعداد للقتال حتى آخر أوكراني”. بينما يتحول تحليل “سبيكتاتور” لتحديات الفساد في أوكرانيا إلى “أدلة” تؤكد ضرورة التوقف عن دعم أوكرانيا.
في ديسمبر 2022، نشرت صحيفة “واشنطن بوست” مقالًا تحليليًا عن التحديات التي يواجهها زيلينسكي، بما في ذلك المناقشات الداخلية بشأن مدة الحرب. ركزت المقالة على صعوبة القرارات التي يتعين على الرئيس اتخاذها في ظل الضغوط الخارجية. لكن الدعاية الروسية استغلت هذا المقال لتصوير زيلينسكي كـ”دمية الغرب”، مدعية أنه يعمل ضد مصالح أوكرانيا.
غالبًا ما تغطي وسائل الإعلام الغربية النزاعات داخل القيادة العسكرية والسياسية في أوكرانيا. على سبيل المثال، كتبت وسائل الإعلام الغربية عن التوتر بين العسكريين والقادة السياسيين بسبب توزيع الموارد. تهدف المقالات غالبًا إلى تحليل العمليات الديمقراطية في ظروف الحرب.
ولكن وسائل الإعلام الروسية تقدم هذه التوترات على أنها “انقسام بين الجيش والحكومة”. وإذا كان هذا “الانقسام” في السابق بين الرئيس زيلينسكي والقائد العام السابق للقوات المسلحة الأوكرانية فاليري زالوجني، فإنه الآن بين زيلينسكي والقائد العام الحالي للقوات المسلحة الأوكرانية ألكسندر سيرسكي.
لكن الأهم من ذلك هو أن وسائل الإعلام الروسية، من خلال التلاعب بالمقالات من وسائل الإعلام الغربية، تخلق روايات موجهة نحو حلفاء أوكرانيا. الهدف هو زرع الشكوك في كفاءة القادة الأوكرانيين وإظهار تراجع الدعم الغربي.
تهدف هذه التفسيرات إلى تقويض ثقة المجتمع الأوكراني في قيادته. وقد تم نشر ادعاءات واسعة النطاق في وسائل الإعلام الروسية حول “الفوضى في القيادة”، وكان الهدف منها في نظرهم تقليل معنويات المواطنين الأوكرانيين والعسكريين على حد سواء.
تقوم وسائل الإعلام الروسية بتحريف التصريحات الحقيقية للقادة الغربيين لدعم سردياتها حول “عدم قدرة أوكرانيا على الصمود” أو “استنزاف الدعم الغربي”. على سبيل المثال، في يناير 2023، استغلت وسائل الإعلام الروسية مقالًا نُشر في صحيفة “دي فيلت” حول تأخير إمدادات الأسلحة، وحرفت محتواه لتروج لفكرة أن “الغرب بدأ يفقد صبره على زيلينسكي”.
لترويج الروايات الدعائية التي تسيء إلى القيادة الأوكرانية، يبدي الكرملين استعدادًا لدفع مبالغ طائلة لنشر تعليقات مؤيدة لروسيا في وسائل الإعلام الغربية الشهيرة، بالإضافة إلى تمويل جهود “الشخصيات المؤثرة” على وسائل التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة وأوروبا الذين أبدوا استعدادهم للتعاون مع العملاء الروس. ووفقًا لما ذكرته صحيفة “واشنطن بوست”، كان الروس مستعدين لدفع ما يصل إلى 39 ألف دولار لزرع تعليقات مؤيدة لروسيا في وسائل الإعلام الغربية الرائدة.
من خلال الاقتباسات المحرفة، والروايات الكاذبة، والتحليلات الزائفة، تسعى الدعاية الروسية إلى خلق وهم الشرعية الدولية لرسائلها. لكن هذا النهج يكشف ضعفها، إذ يعتمد على التلاعب والتزوير بدلًا من الدعم الحقيقي أو الحجج المقنعة.
يظل كشف هذه الحملات وتوحيد جهود وسائل الإعلام الحرة أدوات أساسية لمواجهة تدفق المعلومات المضللة. المسألة لا تتعلق فقط بحماية أوكرانيا، بل بالحفاظ على القيم الديمقراطية العالمية التي تتعرض أيضًا لهجمات العمليات الإعلامية الروسية. إذا كانت العدوانية المسلحة الروسية موجهة حاليًا ضد أوكرانيا، فإن الحرب الهجينة الروسية باستخدام العمليات النفسية الإعلامية، والتدخل الأجنبي، والتلاعب بالمعلومات موجهة ضد العالم المتحضر بأسره، مما يسبب توترًا سياسيًا واجتماعيًا ويهدد وجود الديمقراطيات الغربية.
المصدر: جنوبية