بعيداً عن التطورات الميدانية المتسارعة التي تشهدها خرائط السيطرة العسكرية في سوريا، بعد إطلاق فصائل المعارضة المسلحة في الـ27 من شهر تشرين الثاني لعملية “ردع العدوان”، والتي استطاعت لحد كتابة هذه المادة من السيطرة على مدن كبرى مثل حلب وحماة والاتجاه نحو حمص بعد إعلانها السيطرة على كامل محافظة إدلب في اليوم الثالث من العملية، وبعيداً أيضا عن الحديث عن التعقيدات السياسية الإقليمية والدولية التي رافقت إطلاق هذه العملية، والتي كان لها دور كبير بحسب المراقبين في تحقيق قوات المعارضة لإنجازات ومفاجآت كبرى لم يكن يتوقعها أشد المتفائلين بقوة المعارضة، ولا أكثر المتشائمين بمستقبل النظام السوري والميليشيات التابعة له.
بعيداً عن كل ما سبق يبدو واضحاً من خلال مراقبة تحركات وسلوكيات قوات المعارضة على جميع المستويات الميدانية والسياسية والإعلامية في المناطق التي سيطرت عليها خلال عملية “ردع العدوان” أن هناك تطوراً كبيراً، وتغييراً لافتاً مقارنة بآدائها في السنوات الأولى للثورة السورية، عندما اضطرت إلى حمل السلاح، ونجحت بالسيطرة على كثير من مدن والبلدات، مثل سيطرتها على الأحياء الشرقية لمدينة حلب صيف 2012، وسيطرتها على مدينة الرقة 2013، وإدلب عام 2015، إلى غير ذلك من البلدات في درعا وحمص وريف دمشق ودير الزور.
بشكل عام يمكننا القول أن أبرز ما يميز عملية “ردع العدوان” هو قدرتها على تجنب الأخطاء التي تكررت في الماضي، وإعادة ترتيب أولوياتها بطريقة أكثر عقلانية وتنظيمًا، هذا إلى جانب التكتيكات العسكرية الاحترافية التي اتبعتها، يضاف إلى ذلك الاستفادة من تجاربها السابقة التي كانت مليئة بالتحديات والانتكاسات، مثل خسارتها لمدينة حلب عام 2016، ودرعا 2018، حين استمر هذه التراجع إلى أن انكفأت المعارضة إلى مساحة لا تزيد على 10 % من مساحة سوريا، بعد أن كانت تسيطر على أكثر 70% من الجغرافيا السورية عام 2015، هذا إلى جانب وصول الملف السوري إلى حالة الجمود والعطالة السياسية في السنوات الأخيرة، حتى باتت “القضية السورية” في أواخر درجات الاهتمام الدولي.
أبرز الدروس التي استفادت منها قوات المعارضة والتي كانت مطلباً شعبياً ملحاً على مدار السنوات السابقة هو توحد كل الفصائل المشاركة في العملية بغرفة عمليات واحدة أُطلق عليها “إدارة العمليات العسكرية” وهي تضم مع “هيئة تحرير الشام” فصائل وقوى متعددة الاتجاهات الأيديولوجية مثل “حركة أحرار الشام” و”جيش العزة” إضافة إلى فصائل تتبع “الجبهة الوطنية للتحرير”، إلى جانب فصائل الجيش الوطني التي قادت عملية “فجر الحرية” ضد قوات سوريا الديمقراطية بريف حلب الشمالي.
هذا التوحد لم يكن مجرد قرار تنظيمي، بل كان خطوة استراتيجية جعلت العمل العسكري أكثر انسجامًا وفعالية، بعيدًا عن التنافس والتشتت الذي أضعفهم سابقًا، إذ أدركت الفصائل أن العمل المنفرد يؤدي دائمًا إلى نتائج كارثية؛ لذا اختارت هذه المرة أن تتوحد تحت مظلة غرفة عمليات واحدة، ألغت كل الرايات الفصائلية، والشعارات الأيديولوجية القديمة التي كانت تنتشر بعد سيطرة فصيل على قرية أو بلدة، واقتصرت “إدارة العمليات العسكرية” على رفع علم الثورة فقط كراية
وحيدة، وعليه أصبح من الصعب تمييز الانتماء الفصائلي للعناصر خلال المعارك، أو عند دخولهم المدن.
ولم يقتصر توحيد الجهود على الشق العسكري والقتالي فقط للفصائل المشاركة في هذه العملية، إذ رافق ذلك تحول جذري في التعامل الإعلامي مع المعارك على الأرض يختلف تماماً عن السنوات السابقة، فبدلاً من فوضى التصريحات المتناقضة، تم اعتماد سياسة الضبط الإعلامي، بحيث تصدر جميع الأخبار والمعلومات من جهة واحدة هي “إدارة العمليات العسكرية”، هذه الخطوة أسهمت في تعزيز الثقة بالمعلومات المتداولة، وقللت من تأثير الإشاعات التي طالما أثرت سلبًا على الحاضنة الشعبية.
أما على الأرض، فقد أظهرت المعارضة نضجًا غير مسبوق من خلال التزامها بحماية الممتلكات العامة والخاصة في المناطق التي حررتها، وتجلى ذلك في البيان الذي أصدرته “إدارة العمليات العسكرية” بعد دخولها إلى مدينة حلب الجمعة 29 تشرين الثاني، والذي تعهدت فيه بالحفاظ على المؤسسات العامة للدولة، وإبقاء كل الموظفين في أماكن عملهم، إلى جانب حماية الممتلكات الخاصة للسكان وتأمين حياتهم على اختلاف طوائفهم وأعراقهم، فقد نشرت غرفة العمليات مقطعًا مصورًا يظهر قائد “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني يتابع سير المعركة، ويوجه توصياته للمقاتلين، والتي تضمنت أن يتعامل المقاتلون “بالرفق واللين بأهلنا في مدينة حلب، وحفظ ممتلكاتهم وأموالهم”
هذه السياسة، التي كانت غائبة بشكل واضح في عمليات التحرير السابقة للمدن، والتي شهدت كثيرًا من التجاوزات وخاصة عند دخول الجيش الحر إلى حلب 2012، عززت الآن العلاقة بينها وبين السكان المحليين، وظهرت وكأنها تحمل مشروعًا وطنيًا وليس مجرد طموحات عسكرية، ومما زاد من تأثير هذه العملية هو الخطاب الوطني الذي تبنته المعارضة، إذ لم يكن خطابًا إقصائيًا أو طائفيًا كما في بعض الأحيان السابقة، بل ركز على الوحدة والتنوع، مما أعطى العملية طابعًا شموليًا يهدف إلى استعادة سوريا لكل أبنائها.
وهذا ما بدا واضحاً في رسائل التطمين التي كانت تبثها “إدارة العمليات العسكرية” للمناطق التي تحوي بعض الأقليات الدينية والعرقية، والذي كان النظام يعمل على إثارة المخاوف لديهم من خلال اللعب على الوتر الطائفي، وتصوير قوات المعارضة بأنهم راديكاليون وأصوليون، إلا أن تعامل هذه القوات مع الأحياء ذات الغالبية المسيحية في حلب مثلاً، وتأمين مستلزماتهم للاحتفال بمناسباتهم الدينية “البربارة”، أو مع أبناء “نبل والزهراء” من الطائفة الشيعية الذين بدأوا بالعودة إلى منازلهم بعد أن تركهم النظام لأيام يبيتون بالعراء في مدينة السفيرة، أثبت كذب النظام في روايته المكررة “حماية الأقليات”، إذ انتقم بقصف حي السليمانية ذي الأغلبية المسيحية بحلب.
وإلى جانب حماية الممتلكات بدأ الاهتمام بالواقع الخدمي والمعيشي المتردي للسكان، كتأمين المياه والكهرباء وشبكات الاتصال، إضافة إلى تعبيد الطرقات، والاهتمام بنظافة الشوارع كما رأينا في مدينة حلب.
ولم تقتصر بيانات “إدارة الشؤون السياسية” التابعة لحكومة “الإنقاذ” على تطمين المكونات والطوائف والأقليات والإثنيات في حلب وبقية المدن السورية، بل وجهت بيانات إلى دول
وحكومات متعددة بلغات مختلفة شملت الإنكليزية والروسية، من ذلك رسائل التطمين التي وجهت إدارة العمليات إلى السفارات العربية والأجنبية بعد تحرير مدينة حماة، وتوجه قواتها نحو حمص، إذ أوضحت الإدارة أن التغيير السياسي المنتظر في سوريا لا يعني بأي حال من الأحوال انهيار الدولة أو مؤسساتها، بل على العكس تمامًا، يشكل فرصة لبناء دولة مدنية قوية قائمة على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.
ومن الجوانب التي أظهرت التفكير بعيد المدى لقوات المعارضة، فتح باب تسوية الأوضاع لعناصر النظام، والابتعاد عن فكرة الانتقام، فتحت عنوان “حياتك أهم” بدأت المسيرات التابعة لقوات “ردع العدوان” منذ اليوم الأول للمعارك بإلقاء منشورات تخاطب جنود قوات النظام برسالة واضحة مفادها وخلاصتها الدعوة إلى ترك السلاح، مع التأكيد على أن تأمين انشقاق الجنود ومساعدتهم في الوصول إلى المناطق التي يريدون التوجه إليها، هذا إلى جانب فتح مراكز لتسوية أوضاع الجنود المنشقين وإعطائهم بطاقات شخصية جديدة، كما رأينا في مدينة حلب.
هذا القرار لم يكن فقط بهدف تقليل أعداد الخصوم، بل كان بمنزلة إشارة إلى وجود رؤية سياسية ناضجة، تتعامل مع الواقع بطريقة عقلانية، وتترك الباب مفتوحًا للمصالحة والمحاسبة وفق إطار قانوني.
وفي حين لم تتضح بعد الصورة العامة لإدارة وحكومة المناطق التي سيطرت عليها مؤخرا قوات المعارضة، أوضح الجولاني لمجموعة الأزمات بعد زيارته لمدينة حلب أمس الخميس أن “المدينة ستحكمها هيئة انتقالية، وسيتم توجيه المقاتلين، بما في ذلك من هيئة تحرير الشام، إلى مغادرة المناطق المدنية في الأسابيع المقبلة، وسيتم دعوة البيروقراطيين لاستئناف وظائفهم”، وكان التصريح الأبرز قوله: “حتى أن هيئة تحرير الشام تفكر في حل نفسها لتمكين الدمج الكامل للهياكل المدنية والعسكرية في مؤسسات جديدة تعكس اتساع المجتمع السوري”. مما يشكل بدوره منعطفاً كبيرا باتجاه التنازل عن الولاءات الأيديولوجية والعقائدية في سبيل تغليب المصلحة الوطنية.
أخيرًا، لا يمكن تجاهل التقدم الذي أحرزته المعارضة في تطوير قدراتها العسكرية، من خلال تصنيع الطائرات المسيرة والمعدات المحلية، فقد أظهرت أنها لم تعد تعتمد بالكامل على الدعم الخارجي، بل باتت تعتمد على نفسها، مما عزز استقلاليتها العسكرية. إلى جانب ذلك، كان هناك اهتمام بالإعداد النفسي والعقائدي للمقاتلين، مما أعطاهم دافعًا أقوى للاستمرار رغم الصعوبات.
من خلال هذه الخطوات، يبدو أن المعارضة السورية قدمت نموذجًا مختلفًا عن السابق، يتسم بالتخطيط والاحترافية والانضباط والنضج السياسي، مما يساعدها في فتح أبواب واسعة لها تمهد لقبولها محلياً وهذا ما رأيناه في استقبال أبناء المناطق التي يتم تحريرها من سيطرة النظام كحماة وسلمية، ودولياً من خلال التصريحات التي أكدت أن المدنيين من كل الطوائف لا يشعرون بالخوف من دخول “قوات ردع العدوان” إلى مناطقهم.
المصدر: تلفزيون سوريا