طويتُ آخر صفحات رواية الصديق وحيد الطويلة “حذاء فيلّليني” (دار المتوسّط، ميلانو، 2016)، ثم تسارَعت الأحداث في حماة التي صارت في أيدي المعارضة السورية المسلحة. وفي الأثناء، ذاع الخبر عن تحرير معتقلين ومُحتجزين (لا تزيّد في وصف أكثرهم مخطوفين) في سجون المدينة. أحدّق في صورة أحدهم، اللبناني علي حسن العلي، حطامَ رجل بلحيةٍ بيضاء، ثم أعرف، كما غيري، أنه في السجن منذ نحو 40 عاماً، حُبس وهو في السادسة عشرة من عمره، بتهمة تفجير تمثالٍ لحافظ الأسد، فتضجّ فيّ زوبعةٌ من أسئلة عن الواقع الذي يتحدّى الخيال، عن الجحيم الذي كان يغالبه هذا الفتى ثم الشاب ثم الرجل الشائخ في هذه العقود، عن حاجة عملٍ أدبيٍّ رفيعٍ ينكتب عن هذه المحنة إلى علوٍّ شاهقٍ في ذرى اللغة، لتتسع لكل ما توزّعت عليه ليالي هذا الإنسان ونهاراتُه وكوابيسُه وأحلامُه في مساحات الألم والفانتازيا والكاريكاتورية السوداء والانتهاك والجروح و… . عن فيلمٍ سينمائيٍّ يحتاج حذاقةً استثنائيةً في تشخيص هذه الدراما الفريدة الفردانية التي، لا ريب، تُحسَب شاهداً كاشفاً عن شيءٍ من أهوال منظومة القمع التي شيّدها حافظ الأسد في سورية. أجدُ أن رواية المصري وحيد الطويلة تتوسّل احتيالاً (مكشوفاً إلى حدٍّ ما)، عندما توهِم قارئها بأنها منشغلةٌ بانتهاك آدميّة الإنسان في فظاعات التعذيب عربياً، ولا تتعلق بسورية تخصيصاً، غير أن إشارةً عابرةً إلى هذا البلد “تحسم” هذا الأمر، وإنْ تُبيح مناوراتُ السرد لهذا القارئ أن يتعايش مع هذا الوهم، فليس بين القنافذ أملس، وأنظمة عربية ليست قليلة، انخلعت وأخرى ليس بعد، يصدُقُ عليها الذي نقرأه في هذه الرواية.
فعلها أيضاً ميشيل كيلو في روايته (أو قصّته الطويلة) “دير الجسور” (دار ميسلون، اسطنبول، 2019) عندما رمى إشارةً عارضةً وحيدة تُنبئ أن الترميزات الغزيرة في النصّ تأخذه إلى سورية. وفعلها أيضاً عندما أعطى السجّان، ضابط المخابرات، الموظف الأمني في دواليب السلطة، مساحةً واسعةً ليقول ما يقول بضمير المتكلم، عمّ يفعل من أجل خدمة الوطن، وفي تأديب المتآمرين. وفعلها أيضاً عندما انتهت الرواية بانتهاء هذا الرجل في زنزانة. وعلى ما بين عملي الطويلة وكيلو من مساحات تبايُن، فإن نقاط تلاقٍ بينهما مثل هذه حاضرة (لا ينتهي الجلاد في رواية وحيد إلى السجن، إنما إلى مصحّة المعالج النفسي السجين السابق لديه الذي تعرّض للتعذيب الثقيل منه).
لك أن تقول إن التركيب والالتباس في بناء “حذاء فيلّليني”، من حيث تناوب الرواة (المعالج النفسي، الضابط الجلاد، زوجته، المخبر مأمون)، ووجود صوت المخرج الإيطالي فيديريكو فيلّليني (1920 – 1993)، واستخدام تقنيات السينما في مختتم الرواية، إن هذا كله تطلّب جهداً من القارئ، ضاعف من مساحات “لذّة النصّ”، النصّ الذي يقول عن سورية القبو، سورية التي يُفصح الجلاد فيها، في الرواية وفي الواقع، بأنهم (من هم إن لم يكونوا بوليس السلطة ومخابراتها وسجّانيها؟) من اخترعوا الروبوتات قبل اليابانيين، “هم يصنعونها من جماد، ونحن نصنعها من البشر”. بديعٌ ما أنطق به وحيد الطويلة هذه الشخصية في الرواية، قبل أن يصير بعد عشرين عاماً جسداً مقهوراً على سرير المعالج النفسي، وكان “كبير الضباط المكلّف بالإشراف على التعذيب”، كما عرّفت به زوجته التي أتت به إلى هذا المعالج الذي اسمُه مُطاع وصار “مطيع” في قبو الأمن عند هذا الضابط، جاءت لتتحدّث عن نفسها، عن اضطهاده لها جنسياً. يُخاطبه “أنفي انكسر حين كنت أجلس القرفصاء على الأرض أمامك، تحطّم من عدة ركلات متتالية”.
يسأل مُطاع الذي صيّروه مطيعاً: لم يحارب هؤلاء، من أجل من؟ وتقول زوجة الضابط الجلاد وهو مسجّى مريضاً على السرير “لا أريد موتَه، سأموتُ لو مات، أريدُه حياً لأسقيه من كأسه”. أما الضابط نفسُه فمن كثيرٍ قاله “أفنيتُ عمري كله في خدمة هذا الوطن، نذرتُ كل وقتي لأبنائه، أسعدتُ خمسة وعشرين مليوناً، ضحّيتُ براحتي وراحة بيتي من أجلهم”. يُخاطب مُطاع “حاولتُ أن أغيّرك لتصير أفضل، وأنت الآن تعبُر فعلاً إلى الأفضل. أنت كنتَ تخرّب الوطن، وأنا كنتُ أحمي الوطن”. …
سمّوا المعالج النفسي “فيلّليني الشام” من فرط مشاهدته أفلام المخرج الشهير. خاطب جلّاده بما أفضت به حشاياه، لمّا كان هذا الأخير مسجى على سرير علاج نفسي. تُرى، بماذا كان اللبناني علي حسن العلي يُخاطَب في السجن في حماة 40 عاماً؟ هل سيُتاح له يوماً أن يلقى واحداً من جلّاديه؟ هل من سينمائيٍّ بمخيّلة فيلليني يُنجز سينما رهيفة عنه؟ …؟
المصدر: العربي الجديد
رواية “حذاء فيلّليني” للروائي السوري “وحيد الطويلة” قراءة جميلةوتعقيب موضوعي للكاتب “معن البياري” الرواية تتحدث عن رؤى لأحداث ومواقف تظهر كابوس وإجرام وإرهاب نظام طاغية الشام “الأسد” من صور لمعتقلين خرجوا منةسجون النظام بعد إعتقال 40 عاماً والصورة التي رواها الكاتب الراحل ميشيل كيلو “دير الجسور” ورواية “حذاء فيلّليني” .