لم يعد هناك من متسع للنقاشات السياسية التي كانت تجري ضمن دوائر مغلقة والمرتبطة بمسائل خلافية بين النخب السورية بعد انقلاب موازين القوى في سورية انقلابا تاما في الأيام القليلة الماضية، هذا الانقلاب الذي مازالت مفاعيله ماضية لتحدث قطيعة تامة بين مرحلة انتهت ومرحلة تطل برأسها اليوم .
ماهو أكثر أهمية الآن هو ملاقاة المرحلة الجديدة بمعطياتها السياسية الداخلية من وجهة نظر التيار الوطني الديمقراطي والتفاعل مع تلك المعطيات من أجل انتقال ذلك التيار من حالة اللافعل إلى أن يمتلك دورا سياسيا وتأثيرا في المرحلة القادمة في صنع مستقبل سورية كدولة مواطنة ودولة قانون ودولة حرية وكرامة لجميع السوريين .
نقطة البدء هي الرحيل نحو الشعب , فك العزلة التي أبعدت النخب السورية عن التفاعل مع الجمهور وجعلتها تبدو وكأنها تعيش في عالمها الخاص وليس في عالم الشعب السوري .
ليس المكان هنا للحديث عن الأسباب التي أوصلت الأمور إلى تلك العزلة , كما ليس مهما هجاء تلك الحالة البائسة بقدر ما هو مهم كيفية الخروج منها ووصل ما انقطع بين الجمهور والنخب .
لكن ماهو التيار الوطني الديمقراطي وكيف يمكن تمييزه كتيار سياسي ؟
ببساطة يتحدد التيار الوطني الديمقراطي بصفتين رئيسيتين : العلمانية غير المعادية للأديان والتي لاتعني سوى أن تكون الدولة حيادية تجاه جميع مواطنيها بغض النظرعن أديانهم ومذاهبهم حيث يتمتع الجميع بحقوق متساوية تماما مع احترام معتقداتهم وحرياتهم الدينية .
والثانية هي تبني الديمقراطية السياسية المعروفة كشكل للحكم وأداة لحماية الحريات الخاصة والعامة .
ولابد من القول إن وحدة واستقلال سورية هي في صلب مسلمات التيار الوطني الديمقراطي كما هو أيضا الاعتراف بكل المكونات الثقافية والاثنية السورية وما يتبع من احترام لغتها وثقافتها وحقها في التعبير عن ذلك كجزء من حقوق المواطنة المتساوية .
والآن فإن جميع المخاوف المرتبطة باحتمال جنوح الهبة العظيمة التي تكفلت بتغيير موازين القوى في سورية وفتح الطريق أمام التغيير كما لم يحدث منذ سنوات عديدة نحو التشدد الاسلامي لايمكن مواجهتها سوى بحركة شعبية واعية تترسخ في المجتمع ضمن الأطر النقابية والسياسية والثقافية .
ومثل تلك الحركة لن تنشأ بدون جهد النخب للاقتراب من نبض الشعب وبناء منظمات سياسية ونقابية ونشر ثقافة ديمقراطية وممارسة الديمقراطية لجعلها حية وملموسة أمام الشعب وليس كمبادىء نظرية مثالية لاصلة لها بالواقع .
لم يكن متاحا في السابق للنخب السياسية النشاط في صفوف الشعب بحرية بسبب طبيعة النظام السوري الاستبدادية القمعية , لكن ذلك سيكون متاحا منذ الآن في المناطق التي خرجت عن سلطة النظام وعما قريب سيكون متاحا في سورية كلها بعد أن أصبح التغيير السياسي على مرمى حجر .
وبدلا من الجمود عند ترداد المخاوف من سيطرة التشدد الديني على التغيير السياسي فما يجدر بالنخب السياسية السورية فعله هو بناء كتلة سياسية وطنية ديمقراطية مهيئة لقيادة حركة شعبية عبر الرحيل نحو الشعب والتفاعل معه والخروج من القوقعة التي حبست النخب السورية نفسها بها , متذرعة تارة بأن الشعب السوري ليس مؤهلا بعد للاستماع لها , وتارة أخرى بأن التيارات الدينية المتشددة لاتترك لها حيزا للفعل والتأثير وكأنها تنتظر أن يأتي إليها الشعب ويمنحها المكانة اللائقة لا أن تذهب هي إليه وتبذل جهدها لنيل ثقته واحترامه بما تمثله من قيم وأخلاق وثقافة وتواضع .
تلك هي الطريقة الوحيدة لإضفاء الطابع الوطني الديمقراطي على التغيير السياسي القادم , والذي يمكن أن يبدد المخاوف التي تكاد تشل حركة النخب السياسية السورية اليوم وتدفعها نحو انتظار مخلص خارجي أو نحو القبول بالتخلي عن الديمقراطية من أجل العلمانية .
لايمكن مواجهة تشدد التيارات الإسلامية السياسية بتشدد علماني , لكن بالاستناد إلى كتلة وطنية ديمقراطية شعبية والتسليم بكون الشعب هو مصدر السلطات وهو من يختار حكامه ضمن الديمقراطية , والعمل لجعل الطرح الوطني الديمقراطي مقبولا ومقنعا لأوسع فئات الشعب وذلك يتطلب نخبا سورية من طراز جديد .