منذ أيام قليلة، تغيرت معالم المشهد السوري بطريقة مفاجئة وشبه جذرية. إذ تقدمت مجموعات مسلحة، عمادها الرئيسي “هيئة تحرير الشام”، باتجاه خطوط سيطرة النظام العسكرية في محافظتي حلب وإدلب، حيث اخترقتها وتجاوزتها بسهولة قلّ نظيرها في تاريخ المعارك الحربية التقليدية. وبعد وصول هذه القوات السهل للغاية إلى عمق مدينة حلب من دون معارك، استمرت باتجاه قطع طرق الإمداد المحتمل لقوات النظام شرقًا وجنوبًا من دون أية صعوبة تُذكر. ومع استمرار التقدّم السريع، برز إلى السطح، وخصوصًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حجم هائل من التعليقات والتحليلات والاستنتاجات التي تعكس خلاصات مركّبة ومرتبكة من التفكير الرغبوي، الذي تمّ استعراضه والاجتهاد بتفسيراته من قبل جميع الأطراف المعنية، سوريًا خصوصًا وإقليميًا عمومًا.
التفكير الرغبوي هو نوع من التفكير الذي يعتمد أساسًا على الرغبات الذاتية والآمال الشخصية أكثر من اعتماده على الحقائق أو الأخذ بالاعتبار الواقع الموضوعي. في هذا النوع من التفكير، يُفضّل الفرد وقوع ما يود أن يحدث أو ما يتمنى أن يكون عليه الحال، بدلاً من التفكير بشكل منطقي أو واقعي في منطق الأمور ومسارها ومآلاتها. ينعكس ذلك في عملية اتخاذ القرارات أو في مسار تفسير الأحداث، بناءً على ما يود هذا الفرد أن يحدث فعلاً، بدلاً من الاستناد إلى الأدلة الموضوعية أو حتى إلى الاحتمالات الواقعية. كأن يتمنى حدوث شيء معين رغم معرفته أن احتمالات تحقق هذا الحدث منخفضة للغاية. مثلاً، شخص قد يعتقد أن حدثاً معيناً ينطلق أساسًا بناءً على ما توقّع هو وسيؤول إلى النتائج التي تحاكي تمنياته. ويؤدي هذا التفكير إلى اتخاذ قرارات غير واقعية أو تقديرات خاطئة للمواقف، وغالبًا ما قد يؤدي إلى خيبات أمل مع عدم تحقق الرغبات المتوقعة جزئيًا او كليًّا.
إن مفهوم التفكير الرغبوي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بفلسفة سيغموند فرويد، أحد مؤسسي علم التحليل النفسي، الذي أشار إلى هذا النوع من التفكير في سياق رغبات الإنسان غير الواعية. وقد طوّر شرح هذا المفهوم في سنة 1907 من خلال كتاب عنونه “مستقبل وهم”. وهو يفسّر من خلاله كيف يمكن أن يؤثر الوعي الباطني والرغبات العاطفية في اتخاذ القرارات والتفسير الذاتي للواقع، مهما كان هذا التفسير بعيدًا عن هذا الواقع. لاحقًا، تطوّر استخدام هذا المفهوم في عديدٍ من العلوم الإنسانية، كالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع. وهو على عدة أنواع، منها العقلي، حيث يميل حينئذ صاحب التفكير الرغبوي إلى تعديل أو تكييف الواقع ليتناسب مع رغباته أو آماله. وبالتالي، يُركّز على ما يتمنى وقوعه مهما كانت الاحتمالات ضئيلة لذلك. كما أن هناك النوع العاطفي، الذي يرتبط بالتأثيرات العاطفية على الإدراك والتفكير، حين تسيطر هذه التأثيرات على تفكير الفرد كي يتجنب الواقع المؤلم الذي يحيط به أو يعبر من خلاله. كما أن هناك التفكير الرغبوي المرتبط باتخاذ القرار، حيث يستند إلى ما هو مرغوبٌ في أن يحدث عوضًا عن دراسة احتمالات حدوثه أو تقييم العقبات أمام هذه الاحتمالات. كما يُقاربه نوعٌ آخر والذي يرتبط بالتوقعات غير الواقعية والمستندة إلى النتائج المرجوة غير المحتملة. وأخيرًا وليس آخرًا، يمكن للتفكير الرغبوي أن يصبح جماعيًا وهنا الطامة الكبرى. فإن كان فرديًا، سيكون ضرره مقتصرًا على من يتبناه، وربما على من يرتبط به بشكل مباشر. أما الجماعي، فقد يؤدي بمجموعة أو تيار أو أكثر، إلى الوقوع في سوء التقدير حيث يُبنى على الشيء مقتضاه.
فأين ما حصل ويحصل في حلب من هذا التفكير وأنواعه؟ يبدو للوهلة الأولى بأن النوع العاطفي هو الأكثر سيطرة على مشاعر المتابعين، وخصوصًا من يرى منهم الحدث من زاوية إيجابية. فالفرحة بالتخلّص من رموز المؤسسة الحاكمة، والتي أمعنت في انتهاكاتها المتنوّعة بحق نسبة كبيرة من السوريين بسرعة قياسية، حملت الكثيرين على إغفال التوقف عند بعض المظاهر التي يُمكن أن تُشكّل بالنسبة لجزء لا بأس به من المجتمع المحلي سببًا للشعور بالقلق والحذر. كما قد تُساهم بعض الأخبار والتعليقات الإيجابية في تعزيز هذا التوجّه. وعلى سبيل المثال، استثمر كثيرون في سرد رغباتهم كحقائق في أن يمتلك المسلحون مضادات حديثة للطيران لساعات طوال، قبل أن تعود حليمة النظام الى عاداتها القديمة بقصف عشوائي للمدنيين في حلب وإدلب، بانتظار جرّ الدب الروسي إلى كرم السوريين مجددًا عبر طيرانه العشوائي أيضًأ، والذي اختبره السوريون عمومًا وأهالي حلب خصوصًا منذ سنواتٍ طوال. وكذا، أشار آخرون إلى قرب سقوط مدينة حماة خلال ساعات نتيجة لسهولة ما وقع من تقدم حتى الآن، متناسين أنهم بذلك يتغاضون عن خطوطٍ حمراء وضعها الروس مبدئيًا وربما أيضًا وضعها الراعي الإقليمي للمسلحين، تمنع هؤلاء من الاقتراب من مناطق محددة بانتظار حمل التغيير المنشود إقليميًا ودوليًا، والله أعلم.
المصدر: المدن