قرار بايدن السماح لأوكرانيا باستخدام صواريخ الأطلسي ضد أهداف عسكرية روسية، يمثل تصعيداً كبيراً للصراع الأوروبي الذي دخل يومه الألف. وعلى رغم أن هذه الخطوة لا تشكل حتى الآن مواجهة عالمية، فإنها تعكس التورط المتزايد للغرب في الحرب ضد بوتين
إن ما يجعل السماح باستخدام هذه الصواريخ الجديدة وتوسيع نطاق الأهداف المعتمدة أكثر حساسية من أي أنواع أخرى من إمدادات الأسلحة، هو أن هذه الصواريخ بعيدة المدى تعتمد في تحديد أهدافها على معلومات استخباراتية يتم جمعها عبر الأقمار الاصطناعية الأميركية.
في الماضي، كان المتفائلون يواجهون التهديدات بإمكان نشوب حرب عالمية بتعليقات ساخرة كأن يقولوا: “سينتهي كل شيء بحلول عيد الميلاد”.
لكن بعد تسريب فريق السياسة الخارجية للرئيس الأميركي جو بايدن قراره السماح لأوكرانيا باستخدام صواريخ بعيدة المدى، قدمتها لها الولايات المتحدة، ضد أهداف داخل روسيا، قرع المتشائمون ناقوس الخطر، محذرين من أن الحرب العالمية الثالثة قد تندلع بحلول عيد الميلاد هذه السنة.
الروس من جانبهم أطلقوا تحذيرات شديدة اللهجة، منبهين إلى أن أي دعم غربي يسمح لكييف باستخدام الصواريخ التي يزودها بها “حلف شمال الأطلسي” (ناتو)، ضد أهداف في روسيا، من شأنه أن يتسبب بردّ انتقامي مدمر.
ويبدو أن تحذيرات الكرملين نجحت في التأثير بالمستشار الألماني أولاف شولتز الذي كرر رفضه تزويد أوكرانيا بصواريخ “كروز” من طراز “توروس” Taurus الألمانية (بعيدة المدى تُطلق من الجو، وهي مصممة لضرب أهداف شديدة التحصين كالمخابئ أو مراكز القيادة أو البنية التحتية). وأقدم كذلك على خطوة لافتة تمثلت في الاتصال بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في أول محادثة بينهما منذ أكثر من عامين.
مع ذلك، لم يكتفِ رئيس الوزراء البريطاني بتكرار دعمه لأوكرانيا، بل يبدو أن السير كير ستارمر استبق قرار الرئيس بايدن من خلال السماح لكييف باستخدام صواريخ “كروز” من نوع “ستورم شادو” Storm Shadow التي قدمتها لها بريطانيا (تُطلق من الجو ويصل مداها إلى 250 كيلومتراً وتتميز بقدرتها على تفادي الرادارات) لاستهداف القواعد الجوية الروسية والمخابئ التي شاركت في إطلاق الغارات الجوية الأخيرة على البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا.
إن ما يجعل السماح باستخدام هذه الصواريخ الجديدة وتوسيع نطاق الأهداف المعتمدة أكثر حساسية من أي أنواع أخرى من إمدادات الأسلحة، هو أن الصواريخ بعيدة المدى، المعروفة اختصاراً بـ TACMS (“نظام الصواريخ التكتيكية للجيوش” Army Tactical Missile System)، تعتمد في تحديد أهدافها على معلومات استخباراتية يتم جمعها عبر الأقمار الاصطناعية الأميركية.
كذلك تعتمد صواريخ “ستورم شادو” البريطانية على بيانات استهداف مماثلة تقدمها استخباراتنا عن المواقع الروسية وانتشار قوات الكرملين. وكان الرئيس بوتين حذر في سبتمبر (أيلول) الماضي، من أن هذا الواقع – المتمثل في أن الأوكرانيين لا يستطيعون استخدام هذه الصواريخ التي يوفرها “حلف شمال الأطلسي” من دون مشاركة مباشرة في الحرب من أفراد من الولايات المتحدة أو بريطانيا، قد يكون مؤشراً على أن الغرب دخل في حال حرب فعلية مع روسيا.
يمكن في الواقع القول إن “حرب الدفاع الوطنية” كما يعتبرها الأوكرانيون، أو “حرب الغزو” كما يصفها بوتين – أياً يكُن خطابه – قد أصبحت بالنسبة إلى دول “ناتو” “حرباً بالوكالة” ضد المنافس الجيوسياسي الأوراسي الرئيس للحلف العسكري الغربي.
في المقابل، تظهر استعانة فلاديمير بوتين بالذخائر التي زودته بها كوريا الشمالية، والآن مشاركة جنود نظام بيونغ يانع الاستبدادي والمعسكَر للغاية، في القتال، كيف أن الحرب في أوكرانيا تتخذ بعداً عالمياً على نحو متزايد.
الحرب العالمية الثالثة ربما لم تبدأ بعد، لكن دعونا نطلق على هذه التي تدور الآن تسمية “الحرب العالمية زد” World War Z – كما تُنطق بالأميركية – في إشارة إلى الرمز Z (وهو اختصار لكلمة Zapad الروسية التي تعني “الغرب”) الذي قام الجيش الروسي برسمه على مركباته عندما غزا أوكرانيا في فبراير (شباط) عام 2022، أي قبل ألف يوم بالضبط.
وكانت مجموعات متنوعة من المتطوعين من دول غربية تدفقت منذ ذلك الحين للقتال إلى جانب أوكرانيا، إضافة إلى مجموعات أخرى من الجمهوريات التي نشأت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والتي تكنّ مشاعر معادية لروسيا، مثل جورجيا، وحتى بعض الروس المعارضين لبوتين. وفي حين أن هذا الفيلق الأجنبي لا يمثل سوى جزء صغير من القوة العسكرية لأوكرانيا، إلا أن أسماء ألويته التي غالباً ما يتم تصويرها بفخر، تبالغ في تقدير تأثيرها في ساحة المعركة.
في الجهة المقابلة، تم إرسال ما يصل إلى 10 آلاف جندي كوري شمالي – أي ما يوازي حجم فرقة عسكرية تقريباً – لمساعدة الجيش الروسي في الهجوم المضاد الذي يشنه على القوات الأوكرانية التي سيطرت على جزء من الأراضي الروسية في منطقة كورسك. ويعتبر هذا التورط المباشر لجنود من كوريا الشمالية تصعيداً كبيراً بارزاً وتدويلاً للصراع.
وفي الوقت نفسه، لا تزال المخاوف قائمة في شأن ما إذا كان قرار البيت الأبيض المتعلق بالسماح لكييف باستخدام “نظام الصواريخ التكتيكية للجيوش”، سيسهم فعلاً في تغيير قواعد اللعبة ويؤثر في مسار الحرب.
لكن ما يتم إغفاله في كثير من الأحيان هو محدودية عدد أنظمة الأسلحة المتطورة المتاحة لدى البنتاغون التي يمكن نشرها في أوكرانيا. فوزارة الدفاع الأميركية تجد نفسها مضطرة إلى الاحتفاظ بها كاحتياط، تماماً كما هي الحال مع أنظمة “باتريوت” المضادة للصواريخ، تحسباً لنشوب أي توترات في مناطق أخرى من العالم في المستقبل، لا سيما التحركات العسكرية لكل من تايوان والصين في بحر الصين الجنوبي.
وعلى رغم مرور ألف يوم على الحرب في أوكرانيا، لم تعمد الدول الغربية إلى تكثيف إنتاج هذه الأنظمة المتطورة من الأسلحة بصورة جدية. ومن المفترض بحسب تقديرات بوتين، أن تكون روسيا قادرة على استيعاب أي ضربات على المدى القريب، والرد عليها من خلال زيادة إنتاجها من القنابل الانزلاقية (قنابل مجنحة تسمح بالالتفاف على الدفاعات الجوية) والصواريخ الفرط صوتية (تفوق سرعة الصوت).
إضافة إلى ذلك، أثارت إعادة انتخاب دونالد ترمب رئيساً في الولايات المتحدة، تساؤلات مهمة حول مدى التزام واشنطن دعم أوكرانيا “ما تطلب الأمر ذلك”. ويعتقد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأن ترمب قد يكون أكثر فاعلية في ممارسة الضغط على بوتين مقارنة بجو بايدن. وربما يكون ذلك صحيحاً، لكن فريق الرئيس المنتخب أشار إلى أن التحول المفاجئ في السياسة من جانب الرئيس المنتهية ولايته، قد يكون “عائقاً” أمام خطة السلام للرئيس المقبل.
وفي حال كان الرئيس ترمب يعتزم تقديم عرض لا يمكن لبوتين أن يرفضه – كقبوله أن يحتفظ بشبه جزيرة القرم والمناطق الأوكرانية المحتلة اليوم، لكن من دون أي توسع إضافي، تحت طائلة مواجهة دعم أميركي أكبر لكييف – فقد يكون جو بايدن استبق هذا الطرح وأفقده زخمه.
يشعر عدد كبير من أنصار ترمب من مؤيدي حركة ماغا “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” Make America Great Again (MAGA) بقلق بالغ من التغيير المفاجئ في موقف بايدن في اللحظة الأخيرة. وقد عبر دونالد ترمب الابن عن استيائه من قرار الرئيس الأميركي، معتبراً أن الهدف منه هو إفشال “خطة السلام” التي وضعها والده. وفي المقابل، يسعى “ديمقراطيون” متشددون إلى إعادة إحياء الاتهامات المعروفة بـ “روسيا غيت” Russiagate التي تقول إن دونالد ترمب الأب “تابع” لبوتين.
إن تداخل الحرب في أوكرانيا مع ديناميكيات السياسة الداخلية في الولايات المتحدة، قد يصبح من أكثر مظاهر الحرب بالوكالة حدة، وقد يتمثل في صراع عالمي أوسع بين روسيا وحلفائها من جهة، والغرب من جهة أخرى.
يبقى أن الجميع يترقبون معرفة أي جانب سيختاره دونالد ترمب، إذ إن نتيجة “الحرب العالمية زد” تعتمد عليه أكثر من أي شخص آخر.
مارك ألموند هو مدير “معهد أبحاث الأزمات في جامعة أكسفورد” Crisis Research Institute, Oxford
المصدر: اندبندنت عربية